أسود الأطلس: عقلية الانتصار في مواجهة ثقافة الهزيمة!!

Portugal v Morocco: Group B - 2018 FIFA World Cup Russia

MOSCOW, RUSSIA - June 20: Moroccan fans during the 2018 FIFA World Cup Russia group B match between Portugal and Morocco at Luzhniki Stadium on June 20, 2018 in Moscow, Russia.(Photo by Maddie Meyer/Getty Images)

غالبا ما تدشن الرحلات المهمة لمسيرات عظيمة، كما تقود المعارك الناجحة إلى حروب مظفرة! نقول ذلك وقد قاربت رحلة أسود الأطلس على نهايتها السعيدة، سواء توجت بالمركز الثالث أو الرابع في كأس العالم بقطر. ولأنها تجربة استثنائية بكل المقاييس، فستبقى مصدر إلهام للعديد من المجتمعات والدولن على امتدار جغرافيا العالم الثالث، وستستمر في إسالة المداد داخل العالمين العربي والإسلامي والقارة الأفريقية وغيرها.

لقد أحسن أسود الأطلس وقائدهم وليد الركراكي في إدارة معاركهم الكروية داخل المستطيل الأخضر،  بمقدار إتقانهم لإدارة معركة الصورة والرمز على وسائل التواصل الاجتماعي، وساعدهم في معركتهم الثانية تحديدا، ما وجدوه من دعم منقطع النظير من ملايين النشطاء والمؤثرين والجمهور العادي على هذه الوسائل. إن الرمزية التي اقترنت باسم “أسود الأطلس”، وما عكسوه في معركتهم الأولى من قيم الثقة بالنفس، والعزيمة، والإصرار، وفرض الأسلوب، والإيمان وغيرها من قيم أصبحت ماركة مسجلة باسم الشعب المغربي برمته، لدى الشعوب العربية والأفريقية والإسلامية، وهو ما اختصر تحت عنوان عريض جاب الأرض من مشرقها إلى مغربها: المستحيل ليس مغربيا!

إن الإدارة الذكية لعملية تفعيل منظومة القيم المحلية، وتوظيفها الناجح في المعارك الكروية التي خاضها أبطال المغرب، حتى وإن بدت بعيدة عنها، صنع من هذه التجربة نموذجا قابلا للاستلهام من قبل الشعوب التي تشترك مع المغرب في روابطها التقليدية (اللغة، الدين، التاريخ، الوجدان، الخ) أو ظروفها الحضارية (الوضع الاقتصادي، التقدم، الموقع على خريطة العالم، الخ). فلأول مرة، يصطحب لاعبون أمهاتهم من أجل التواجد معهم داخل الفنادق وملاعب التباري (العادة جرت في الغرب، أن تدعى زوجات اللاعبين وصديقاتهم)، وهو ما ينسجم مع موقع الأمهات داخل الثقافة الشعبية المغربية والعربية والإسلامية تحديدا. لقد جذبت هذه اللفتة الإنسانية عشرات الآلاف من أبناء الشعوب الأخرى الحاضرين للمونديال، ونالت الاستحسان الشديد من قبل هذه الجماهير التي التقطتها؛ وجابت قبلات حكيمي لرأس والدته، ورقص بوفال مع والدته، ملايين الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي الغربية قبل الشرقية، وأغنت المغاربة عن مئات الكلمات والكتب في إطهار الرقي الإنساني لثقافتهم المحلية، التي لم تحتج إلى ترجمان من أجل إيصال معانيها.

أما مفاهيم “النية” و “البركة” من بين أخرى، نابت عن عشرات الخطب في المساجد، وأظهرت مدى تشبث هذا الشعب بعمقه الثقافي والحضاري الإسلامي، والأجمل أنها جاءت على لسان العديد من اللاعبين الذين ولدوا في المهجر، ولا يحسنون الحديث بالعربية أصلا، لتشكل ردا بليغا على من يحتقرون الثقافة الشعبية من دعاة الحداثة والتنوير، لاسيما وأنها وظفت بطريقة هي أبعد ما تكون عن “الدروشة”، بل وفي إطار شديد المعاصرة، لتظهر مدى العبث الذي أهدر على العرب والمسلمين الوقت والطاقات في هذه المعركة الموهومة (الحداثة والأصالة).

أما الظاهرة الأبرز في المونديال، والتي شغلت وتشغل وستشغل بال المراقبين والمحللين لسنوات عديدة قادمة، فهي حالة الفرح الهستيري، والمحبة الجنونية التي أحاط بها المغاربة والعرب والمسلمين والأفارقة بل وباقي دول العالم الثالث في قارتي آسيا وأمريكا اللاتينية، منتخب أسود الأطلس. ولسنا من السذاجة بحيث نرجعها إلى سبب واحد، أو نتعامل معها كظاهرة عابرة، بل هي على العكس تماما، ظاهرة عميقة وراسخة ومتعددة الأوجه. وهنا، سنكتفي بالتركيز على سبب واحد قد يسهم في إلقاء ضوء فاحص على هذا الحب والفخر بأسود الأطلس، وهو ما أوردناه في العنوان: عقلية الانتصار ونفسية الهزيمة. فمنذ موجة الفرح التي اجتاحت جميع الدول المستعمرة (بفتح الميم) على إثر نيلها للاستقلال، والتي كانت تتجدد -بدرجات متفاوتة- كلما شمل الاستقلال دولا شقيقة أو صديقة من دول العالم الثالث أواسط القرن الماضي، لم يقيض لشعوب هذه الدول أن تفخر وتفرح بإنجاز حضاري في أي من الميادين، بما فيها الرياضة العالمية، وبقيت الانتصارات العسكرية والاقتصادية والرياضية والمعرفية حكرا على مستعمريهم السابقين، واجتهدت نخبنا المحلية المرتبطة بثقافة المستعمرين (بكسر الميم) في “تأبيد” إحساسنا بالهزيمة، وتأكيد عدم إمكانية تجاوز “أسيادنا” القدامي في أي من هذه الميادين، لدرجة أصبح الاكتفاء بفتات الإنجازات وما هو هامشي منها هو أقصى طموحنا، على غرار التأهل للدور الثاني في كأس العالم، أو الهزيمة بأقل من هدفين من طرف “أسياد اللعبة”!! لذلك، لم ينظر ملايين العرب والمسلمين والأفارقة إلى إنجاز أشقائهم المغاربة على أنه مجرد نصر رياضي في ميدان كرة القدم، بل برهانا على قدرة الإنسان العربي (وأقصد لسانا لا عرقا)  والمسلم والأفريقي، بل والعالمثالثي، على تحقيق الانتصار، بعد الإيمان بالنفس وإعداد العدة المناسبة. إن ملايين الحناجر التي هتفت، والأجسام التي تمايلت مع رقصة حكيمي البطريقية على إثر إقصاء منتخب إسبانيا، أو قفزت أعلى من نصيري وهو يسجل في المرمي البرتغالي، كانت ردة فعل واعية من نفسيات مهزومة، أمام لحظة نصر حقيقية، “هرمت أجيال من أجل رؤية هذه اللحظة”!!!

ولعل ما يؤكد عدم احتكار المغاربة لهذا النصر، احتفاء الشعوب المختلفة على امتداد العالمين العربي والإسلامي برفع العلم الفلسطيني داخل ملاعب وساحات قطر، إيمانا منها “بمظلومية” هذا الشعب، ومشروعية توقه إلى التحرر، وهو ما حرص عليه اللاعبون في المستطيل الأخضر والمشجعون في المدرجات، إدراكا منهم أن مسؤولي هذا المحفل العالمي، هم العنوان الذي من خلاله، وبمساعدة وسائل إعلامهم الحاضرة، يمكن إيصال الرسالة الفلسطينية الإنسانية إلى شعوبهم وحكوماتهم. وهنا، لم يكن من قبيل الصدفة، أن تبدأ ظاهرة (رفع العلم الفلسطيني) بشكل خجول في الدور الأول، لتزداد زخما مع انتقال ممثل العرب والمسلمين والأفارقة، المنتخب المغربي، من انتصار إلى آخر، تأكيدا على ما ذهبنا إليه من ربط هذه الممارسة بتوالي الانتصارات.

ختاما، فالأمل كل الأمل، أن يستمر شباب المغرب، ومن ورائهم شباب هذه الجغرافيا الممتدة من الرباط إلى جاكرتا، في العمل وفق عقلية الانتصار، والأخذ بأسبابه، حتى نستطيع أن نحتفل معهم يوما، بتبديد غيوم الهزيمة التي لطالما لبدت سماواتنا منذ الاستقلال!!

حول المؤلف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *