عصر محمد السادس.. ثانيا: التحصين الأمني.. حجر الزاوية في النجاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي

Mansouri and Hammouchi

في العقيدة العسكرية، لا يمكن لمن يدافع عن بلده أن يجعل خط دفاعه الأول (مهما بلغت قوة هذا الخط) داخل حدوده الوطنية، لأنه يجعله “مكشوفا” أمام الاستهداف والاستنزاف، ومعرضا للحصار الذي لا بد وأن يأتي بنتيجة مع طول الأمد. هذه الحقيقة، ربما تصلح أساسا نستوعب من خلاله أحد أهم مفاهيم ومرتكزات “عصر محمد السادس”! ولأن التحصين الأمني هو مفهوم يشمل الأمن الخارجي والداخلي للملكة الشريفة، كان لزاما إيلاء هذا الجانب أهمية قصوى لا تقل عن أهمية بناء الاقتصاد والدبلوماسية المغربيين، بل ربما نستطيع القول بأن الجانب الأمني هو شرط النجاح في باقي الجوانب الأخرى. كيف ذلك؟!

إن بلدا بطموح “المملكة الشريفة”، يدرك أكثر من أي طرف آخر حجم ما يتهدده من مخاطر دولية، في عالم لا تمنح فيه المكانة والأهمية بناء على العلاقات الشخصية، بل تنتزع انتزاعا من بين أنياب أسود (وضباع) السياسة الدولية. وحتى يصبح المغرب مؤهلا لمشاركة “الكبار” ساحة الفعل الدولي، كان لزاما عليه أن يكون محصنا تجاه مطامع هذه الدول نفسها، وأن يصبح عصيا على الافتراس، وهو ما تكفلت به أجهزة الأمن المغربية (داخلية كانت أو خارجية) بكفاءة واقتدار، إضافة طبعا للقوات المسلحة التي توجد هذه المهمة (حماية الوطن) على رأس قائمة أولوياتها. وإذا شئنا التفصيل أكثر، سنحاول -بشكل نظري- أن نفصل بين الأمن الخارجي والداخلي للملكة، حتى نوضح الفكرة أكثر.

لقد شكل جهاز الأمن الخارجي في “عصر محمد السادس”، وتحت رئاسة مديره الحالي محمد ياسين المنصوري (الموجود في المنصب منذ 2005)، ما يمكن تسميته “خط الدفاع الأول” عن المغرب أمنيا، وفي نفس الوقت “خط الهجوم الأول” للمغرب دبلوماسيا! بهذه الوظيفة المزدوجة، تتكسر معظم أمواج التهديد للأمن الداخلي للمغرب خارج حدوده الوطنية، قبل أن تتكفل سلطات الأمن الداخلي بالقضاء على من ينجح منها في الاختراق، في عهد “الذئاب المنفردة” والمعرفة التقنية الإرهابية المتاحة “أونلاين”! دور مشابه تقوم به سلطات الأمن الداخلي بعقيدتها الاستباقية، لدرجة تظهر التناغم التام بين الجهازين (الداخلي والخارجي)، على الرغم من تمايز الملفات التي يمسكها كل طرف، ليبقى مجال التنافس الوحيد -المسموح به- هو التنافس في “حماية الوطن”.

وبالنسبة للملك محمد السادس، ف “الاستقرار” هو مفتاح النجاح الأبرز للمؤسسات، وعلى رأسها الأمنية. وهكذا نجد على رأس جهازي الأمن الخارجي والداخلي، مسؤولين يشغلان منصبيهما منذ عشرين عاما (في الوقت الذي غيرت الجزائر مثلا رؤساء جهاز أمنها الخارجي أحد عشرة مرة خلال نفس الفترة، وغيرت رؤساء جهاز امنها الداخلي عشر مرات!!). ولعل الفائدة الأبرز للاستقرار في جهازي الامن الخارجي والداخلي، إضافة لبناء ما يمكن تسميته “ثقافة المؤسسة”، هو بناء علاقات مهنية مع الأجهزة المشابهة عالميا، وهو أحد شروط النجاح في هذا الميدان. هذا المعنى الأخير نجده مجسدا في المكانة التي تتمتع بها الأجهزة الأمنية المغربية على المستوى الدولي، لدرجة تجعل خدماتها مطلبا ملحا لتامين كأس العالم في قطر، وأولمبياد باريس (من بين أحداث أخرى)، علاوة على طلبات المساعدة الدولية العديدة في مجال إطلاق سراح الرهائن المحتجزين لدى جماعات إرهابية تنشط في الصحراء الكبرى. ولعل ما زاد من احترام العالم للأجهزة الأمنية المغربية، عدم اقتصار “خدماتها الاستخباراتية الأمنية” على رعايا الدول الكبرى كفرنسا وإسبانيا، بل إن تدخلاتها أفادت دولا كسريلانكا ورومانيا “وغيرها من دول العالم الثالث”، مما أكسبها احترام العالم أجمع.

لقد ساهم توسيع نطاق مهمات جهاز الأمن الخارجي لتشمل ملف الوحدة الترابية، بحكم معرفتها الدقيقة بالأوضاع داخل القارة الأفريقية بلدا بلدا، في تحقيق قفزات على صعيد سحب الاعترافات “بجمهورية تندوف” الوهمية. وهكذا، أصبحت تدخلات جهاز الامن الخارجي أحد أهم أدوات “الدبلوماسية” المغربية، “وكاسحة الألغام” في طريقها. وهنا، يحق لهذا الجهاز ورئيسه أن يفتخر أنه خلال عقدين من الزمن، أسهم في تراجع التأييد للأطروحة الجزائرية إلى حدود 15 دولة أفريقية “نظريا”، منها سبعة فقط لا تزال تحتفظ بخطاب “علني” عدائي تجاه سيادة المغرب على صحرائه. نفس الوضع نجده في أمريكا اللاتينية، حيث من بين 8 دول لا تزال تساند نظريا أطروحة البوليساريو، يوجد بلدان فقط يحمل عداؤهما طابعا أيديولوجيا. أما آسيا، فلا تزال الدول الثلاث المساندة نظريا للبوليساريو على حالها (لاوس وكوريا الشمالية وتيمور الشرقية) مع محاولة الأولى اتخاذ مواقف متوازنة. بكلام أوضح، من بين دول العالم ال 193، لم يعد التأييد العلني المطلق لأطروحة الجزائر يتجاوز عشر دول من حلفائها، وإن كان العدد النظري للمعترفين بالبوليساريو هو 26، وهو الرقم الضئيل على كل حال.

نفس النجاحات التي يحققها جهاز المخابرات الخارجية تحت قيادة المنصوري، يحققها نظيره الداخلي تحت رئاسة عبد اللطيف الحموشي، والسبب بسيط: هناك “مايسترو” واحد لهذه السمفونية المغربية، هو الملك محمد السادس، والذي من أجل إغناء اللحن، يدمج آلات موسيقية عديدة في “أوركستراه”، لكن بتناغم محسوب بدقة شديدة، وبتدخلات مرسومة حجما وزمنا، تفسح المجال واسعا أحيانا لأحد الآلات لتقديم “صولو” منفرد، بينما تصمت باقي الآلات، وفي أحيان أخرى تتداخل أصوات جميع الآلات دون “نشاز”، لتقديم لحن عالمي ولا أروع!

لقد صنعت النجاحات الأمنية، ليس فقط على المستوى الداخلي، بل على المستوى القاري والدولي، من المغرب شريكا ورائدا دوليا لا ينازعه أحد مكانته في مجال محاربة الإرهاب، وأصبح طموح باقي الأجهزة الأمنية العالمية هو الحفاظ على علاقة وثيقة مع نظيرتها المغربية، الأمر الذي يجعل من اختيار الحموشي نائبا لرئيس منظمة الإنتربول عن قارة أفريقيا أمرا “بديهيا” لا يحتاج لتبرير.

هذا الاستقرار الأمني الداخلي، دعّم الاستقرار السياسي الذي عرفه المغرب خلال العقود الثلاثة الماضية، وجعل البلاد مرشحا طبيعيا لاحتضان الاستثمارات العالمية في شتى المجالات، علاوة على المؤهلات الاقتصادية بطبيعة الحال. أما ثمار عمل المغرب الأمني خارج حدوده فيجنيها على صعيد تنويع شراكاته الدولية، خدمة قضيته الوطنية، تكريس ريادته القارية، تطوير أدائه الاقتصادي، وتدعيم قوته الناعمة؛ نجاحات يحق لرجالات “الظل” منتسبي الأجهزة الأمنية المغربية على اختلاف اختصاصاتها أن يفخروا بأنهم ساهموا في صنعها، دون ضجيج، وبنفس “تواضع الكبار” الذي يعتبر أحد أهم مميزات “الشخصية الإمبراطورية المغربية”!!

حول المؤلف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *