عصر محمد السادس.. خامسا: تقوية النسيج المجتمعي، ما بين الأمن الروحي والنموذج التنموي الجديد

king Mohammed 6 in Mosque

في معرض استعراضنا لأبرز ملامح ما أسميناه “عصر محمد السادس”، ومرتكزات استعادة المكانة التاريخية للمملكة الشريفة؛ وبعد أن استعرضنا فلسفة الحكم والمفهوم الجديد للسلطة الذي دشنه الملك محمد السادس بمجرد توليه الحكم، وأبرز الإنجازات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي عاشها المغرب خلال السنوات الست والعشرين الماضية، نأتي إلى المستهدف الأول لهذا البناء المتكامل: المواطن المغربي. هذا المواطن الذي يوجد في محور هذا “العصر”، يوجه أهدافه، ويحدد نجاحاته، تم وضع هدف تنميته الشاملة في صلب مختلف البرامج المسطرة، أمنيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا وروحيا، وأصبح بإمكاننا رصد أبرز الإنجازات المتحققة على هذا الصعيد.

ولتكن البداية مع نصيب الفرد المغربي من الدخل القومي، الذي ارتفع من 1560 دولارا للفرد عام 1999، إلى 4240 دولارا للفرد عام 2024، بمعنى أنه تزايد قرابة الضعفين خلال عهد الملك محمد السادس. ورغم إيجابية هذه الأرقام، فقد نبه العاهل المغربي، بشجاعته المعهودة، عن عدم رضاه عن توزيع هذه الثروة على مختلف شرائح المجتمع، مشددا على ضرورة أن تعم منافع هذا النمو الاقتصادي مختلف المناطق المغربية، لاسيما الأقل حظا منها. هذا الأمر، دفع الملك محمد السادس إلى تشكيل لجنة تنظر في مرتكزات “النموذج التنموي الجديد” للمغرب، من أجل تحقيق هدف تقليص الفجوة المذكورة آنفا. صحيح، أن بلدا في طور النمو كالمغرب، الذي يجتهد في صناعة مكانة اقتصادية قوية بين الأمم، لا يزال في مرحلة نثر البذور، ولم يصل إلى مرحلة الحصاد بعد، لكن الإحساس العام بين الناس أن بلادهم تتقدم، واوضاعهم تتحسن، والخدمات المقدمة لهم تتطور، وأنهم يمتلكون أسبابا كثيرة للنظر إلى غدهم بتفاؤل لا تخفى مسبباته.

ولأنه “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”، كان لزاما الاهتمام بباقي جوانب تأمين المجتمع المغربي ورعاية أفراده. وهكذا، كان الجانب الروحي عنصرا مركزيا، وهو الأمر شديد الانسجام مع رابطة “البيعة” التي تطوق عنق أمير المؤمنين الملك محمد السادس وأبناء شعبه الأوفياء. هذا الاهتمام “بالأمن الروحي” للمغاربة تمت ترجمته من خلال الحفاظ على النموذج الديني المتفرد الذي يعيشه المغرب، بوسطيته وتسامحه وتعايش أفراده، وبعد علمائه عن التشدد، وتقبل المغاربة للاختلاف الذي قد يأتي مع الانفتاح على “الآخر”، أيا كانت ديانته أو مذهبه. لقد شهد عمران المساجد تطورا لافتا، بما في ذلك ترميم المساجد العتيقة، وواكب ذلك تحسين أحوال الأئمة والوعاظ والقائمين على شؤون هذه المساجد، مما وفر للمغاربة بيئة مميزة قل نظيرها في العالم الإسلامي، لممارسة شعائرهم بكل طمأنينة، وهو ما تترجمه صور وفيديوهات المساجد في رمضان، التي تملأ مواقع التواصل الاجتماعي، ويتناقلها الناس على امتداد العالم الإسلامي. وكدليل نجاح لهذه السياسة، نكتفي بإيراد نقطتين: بقاء المغرب بعيدا عن آفة الإرهاب المرتبط بالحركات المنتسبة زورا لديننا الحنيف، والمسماة “جهادية”، والتي تنشط في محيط المغرب لاسيما في منطقة الساحل، وهو الأمر الذي تساهم فيه طبعا الأجهزة الأمنية اليقظة؛ وتحول المغرب إلى قبلة لتكوين الأئمة الأفارقة، عبر “مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة”، التي تكفلت بتكوين مئات الأئمة والوعاظ والدعاة من الجنسين، للمساهمة في تأمين المجتمعات التي قدموا منها روحيا.

غير بعيد عن هذا المجال، تبرز قضية تعديل مدونة الأسرة بنسختيها في عام 2004 و 2025، والتي تترجم اهتمام أمير المؤمنين بأن يواكب تطور أوضاع المجتمع المغربي، تطورا في الفقه والاجتهاد المنظم للأحوال الشخصية للمغاربة وأسرهم، في ظل الثوابت الدينية، عبر نقاش مجتمعي قل نظير رقيه في باقي دول العالم الإسلامي.

ولأن حيوية أي مجتمع مرهونة بأوضاع الفئة الأعرض فيه، الشباب، كان الاهتمام بهذه الفئة أحد أبرز عناوين “عصر محمد السادس”، بدءا بتوفير فرص عمل جديدة في ميادين اقتصادية مستجدة، مرورا بالاهتمام بتوفير بنية تحتية متطورة يمارسون فيها الرياضة بمختلف أنواعها، وانتهاء بالحرص على “أنشطة الوقت الثالث” الثقافية والترفيهية التي تملأ فراغ هؤلاء الشباب بكل ما هو مفيد. سياسة مكنت الشباب المغربي من اقتحام ميادين الصناعات الدقيقة كالسيارات والطائرات والرقائق والطاقات المتجددة الخ، ومهدت الطريق لرؤية المنتخب المغربي لكرة القدم يقف بين الأربعة الكبار في كأس العالم بقطر 2022، وزاد دائرة إشعاع الطاقات المغربية الشابة إبداعيا إلى مختلف بقاع المعمور.

ولأن الحديث عن المغاربة لا يقتصر على المقيمين في وطنهم بل يشمل مهاجريه ومغتربيه، فإن نصيبهم من الاهتمام كان وافرا وواضحا. البداية كانت مع تنظيم الهيئات المكلفة برعاية شؤونهم عبر تأسيس “مجلس الجالية المغربية في الخارج” ومنحه الصلاحيات اللازمة للقيام بمهامه تجاه مغاربة المهجر على أكمل وجه، مرورا بتقديم خدمات قنصلية متطورة لهم، تكون قريبة من أبعدهم، ترعى شؤونهم وتسهر على مصالحهم، وانتهاء بالاهتمام بأمنهم الروحي وتوثيق صلاتهم بوطنهم الأم، عبر توفير الأئمة الذين يقومون على رعاية المساجد التي يقيمون فيها شعائرهم. وما عملية “مرحبا” التي تسهر عليها “مؤسسة محمد الخامس للتضامن” بالتعاون مع مختلف أجهزة الدولة، من أجل تيسير العودة السنوية للمهاجرين إلى وطنهم الأم بغرض قضاء العطلة الصيفية إلا دليلا على هذا الاهتمام.

آخر الجوانب المهمة التي يمكن الإشارة إليها ونحن بصدد الحديث عن المجتمع المغربي، تتعلق بالطفرة التي شهدتها هيئات المجتمع المدني، وبروح المبادرة التي عكست غنى الشخصية المغربية، والتي أبانت عن رسوخ ثقافتها التكافلية، التي تتيح توجيه طاقات العطاء عند المغاربة الوجهة الصحيحة. ولعل تجربة زلزال الحوز، وما تلاها من مبادرات تضامنية، وشبيهاتها من حملات التضامن الموسمي مع القرى النائية التي تعاني أوضاعا صعبة عند مرور فصل شتاء صعب، إلا دليلا ناصعا على أصالة معدن إنسان هذا الأرض، طاقته الإيجابية، قدرته الإبداعية، وإحساسه الوطني الرفيع.

هذه الرؤية الملكية المتكاملة للمجتمع المغربي واحتياجات مختلف فئاته، حققت نقلة سيستفيد منها المغرب (كما سنرى في الحلقة المقبلة) في بناء “قوة ناعمة” تكفلت بنشر صورة ناصعة عنه، في العالم أجمع، بطريقة جعلت من المغرب “ماركة مسجلة” للإبداع والعطاء والحيوية والتعايش والصلابة وباقي القيم الإيجابية. لقد تكفلت رؤية الأمهات في مدرجات كأس العالم بقطر (وبعدها في القصر الملكي في الرباط) يشجعن فلذات أكبادهن، الذين يردون بدورهم الجميل بقبلة على اليدين والرأس، سابقة لم تعهدها ملاعب الكرة لدى مختلف شعوب الأرض، مما أعطى أبلغ دليل على “فرادة” هذا المجتمع وأبنائه، وعمقهم الحضاري، وغنى ثقافتهم، وسمو روحهم، وقدرتهم على تشكيل نموذج ملهم لكل من يبحث عن شيء محترم مختلف!

حول المؤلف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *