عصر محمد السادس.. سادسا: القوة الناعمة.. الرافعة التي تؤهل المغرب لتبوء الصدارة الأفريقية

King Mohammed 6 in AU

نأتي الآن إلى ختام هذه السلسلة التي حاولنا من خلالها استقراء أهم ملامح ما أسميناه “عصر محمد السادس” الذي نجح في وضع الأسس والمرتكزات الاستراتيجية لاستعادة مكانة “المملكة الشريفة”، التي لطالما تمتع بها المغرب عبر قرونه الضاربة عميقا في التاريخ، ألا وهي قوته الناعمة. لقد أدرك الملك محمد السادس مبكرا، برؤيته الاستشرافية، أن معارك اليوم تخاض بأسلحة غير تقليدية، وعلى رأسها القوة الناعمة للأمم، لاسيما إذا أرادت الخروج عن نطاق جغرافيتها الضيقة، إلى رحاب التأثير الإقليمي والقاري والدولي. قوة تأتي تتويجا لعناصر القوة المادية التي اجتهدنا في بسط أبرز ملامحها في الحلقات الخمس السابقة، وترتقي بها إلى مقام التأثير والفاعلية.

فمن المعلوم أن نهاية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ومن ورائهما المعسكرين الغربي والشرقي قد حسمت لصالح الأولى دون أن تخوضا حربا بينهما (وإن خاضا معارك بالوكالة)، وأن السلاح الأبرز الذي يسّر للولايات المتحدة كسبها هو قوتها الناعمة بالأساس، ومعها أو من ضمنها القوة الاقتصادية طبعا. والمغرب الذي يتمتع بمكانة مرموقة داخل محيطه العربي وأسرته الإسلامية، كان عاقدا للعزم على الارتقاء بهذا المكانة على صعيد قارته أفريقيا، ومن ورائها الساحة الدولية على اتساعها. هدف ضخم لا يمكن كسبه دون امتلاك رؤية ثاقبة لملكه، وجهودا احترافية لمؤسساته العامة والخاصة والأهلية، وطاقات مبدعة لأبنائه، وهو ما أوصل المملكة الشريفة إلى المكانة التي تتمتع بها حاليا، قاريا ودوليا. وسنركز هنا على الريادة الأفريقية تحديدا، كمدخل للريادة العالمية، لاسيما وأن المكانة العربية الإسلامية، هي أمر واكب المغرب على مر تاريخه وليست معطى جديدا.

وبعيدا عن التعريفات الأكاديمية، كان هدف المغرب منذ البداية، كما أراد عاهله الشاب منذ استلامه الحكم، أن يصبح صاحب الريادة في التأثير القاري، وأحد أبرز الفاعلين الدوليين في هذه القارة التي تعتبر أحد أهم ساحات الصراع الدولي. تأثير “بأدوات ناعمة” تنبني على عناصر قوة حقيقة، سياسية واقتصادية وأمنية وعسكرية، بشكل أوصلنا بعد ربع قرن إلى تغيير خريطة التأثير القاري التي كانت مختلفة تماما. فالصورة مطلع الألفية الثالثة كانت تقليديا كالتالي: جنوب أفريقيا هي الزعيمة غير المتوجة في القارة الأفريقية، مع سيطرة مطلقة على جنوب القارة. تقابلها نيجيريا في غرب القارة، مع صراع ثلاثي تقريبا في شرقها بين كينيا وتنزانيا وأثيوبيا، بعد تراجع الدور المصري. أما شمال القارة، فقد كانت الكفة تميل لصالح المغرب في مواجهة الجزائر، رغم ما يشكله النزاع المفتعل على مغربية الصحراء من “كوابح” تعوق حركة المغرب قاريا. في المقابل، كانت الولايات المتحدة والصين لاعبين أساسيين، تليهما فرنسا وروسيا، وبعيدا عنهما تأتي تركيا وإسرائيل كدول تبحث عن دور وتأثير. مشهد يختلف كثيرا عما تعيشه القارة اليوم، من تفوق صيني، وتخبط غربي بسبب قلة اهتمام الولايات المتحدة بالقارة، وتقهقر النفوذ الفرنسي تحت وطأة ماضيها الاستعماري، وتمدد الدور التركي والمغربي بشكل ملفت للنظر، ودخول متأخر لروسيا من النافذة العسكرية.

هنا، ولأننا نتحدث عن أدوات التأثير الناعمة، بدأ المغرب سلسلة من الخطوات الاستراتيجية المترابطة، أهلته من خلال العمل المدروس والمتواصل إلى احتلال الصدارة، مع بقية من “عناد” جنوب أفريقيا التي تقاوم عملية إزاحتها من موقع الصدارة القارية، وتقهقر واضح للقوة النيجيرية بحكم مشاكلها الداخلية، الاقتصادية والأمنية بالأساس.

لقد جسد المبدأ الملكي الراسخ “التعاون جنوب- جنوب، وفق معادلة رابح- رابح” المدخل الأساس الذي أكسب المغرب مصداقية كانت ضرورية للانتقال إلى المراحل اللاحقة، باستغلال العوامل التقليدية التاريخية، وابتداع عوامل مناسبة لمنطق العصر. فالريادة الروحية للمغرب بإمارة المؤمنين والنموذج الديني المتسامح، والمتانة الأمنية في مواجهة الإرهاب المتطور والمستجد، والروابط الاقتصادية المتينة، كانت حجر زاوية في ترسيخ مكانة المغرب في غرب القارة، على حساب النفوذ التقليدي الفرنسي بالأساس. هذا التأمين المبكر “للساحة الخلفية” للمغرب، جعله يستقبل رحلة التمدد شرق ووسط وجنوب القارة في وضع مريح نسبيا. وكانت الزيارات الملكية التي قادته إلى أزيد من ثلاثين دولة أفريقية، حجر الزاوية في هذا التمدد وتوسع التأثير، غير آبه بحواجز اللغة أو السياسة. كل ذلك تزامن مع سياسة المغرب المدروسة تجاه المهاجرين الأفارقة، والتي شكلت نموذجا فريدا أفريقيا ودوليا. هذه السياسة الجريئة تجاه المهاجرين الأفارقة، في الوقت الذي تلقي فيه دول الجوار بهم في مجاهل الصحراء الكبرى بالشاحنات، أكسب المغرب سمعة إيجابية طاغية، ومكنته من تحقيق هدف مزدوج: من جهة، حولت هؤلاء المهاجرين “الشرعيين”، ومن ضمنهم آلاف الطلبة الذين فتحت لهم مؤسسات التكوين المغربية على اختلاف اختصاصاتها أبوابها، إلى سفراء للمملكة الشريفة في بلادهم الأصلية، يتواجدون في مختلف مناصب المسؤولية في دولهم؛ ومن جهة أخرى، أثبتت اقتران الشعارات المغربية بالأفعال، وأكسبته موقع “القائد” الطبيعي على المستوى القاري.

هذه الريادة الروحية، سرعان ما تكرست عبر اهتمام المؤسسات المغربية العاملة في مختلف دول القارة بالشؤون التنموية للقارة السمراء، وتقديم حلول واقعية للمشاكل الحقيقية التي تعاني منها كل دولة من دوله على حدة، مع التركيز على المساهمة في تمتين الوضع الأمني فيها تجاه مخاطر الإرهاب، والمساهمة في الامن الغذائي والدوائي لها، عبر الأسمدة واللقاحات، وتقوية اقتصاداتها عبر وضع خبرة القطاع البنكي المتطور، وباقي مؤسسات القطاع الخاص كالاتصالات والمواصلات والبنية التحتية.

ولعل ما سهل من مهمة المغرب، أفريقيا، ومن ثم دوليا، نموذجه الحضاري الراسخ، وغنى طاقاته البشرية المرتكزة إلى إبداع شبابه الذي لا ينضب. وهو ما شهد طفرة في محطات مفصلية مهمة، بدءا من أزمة كورونا، وانتهاء بإنجازاته الرياضية لاسيما في كأس العالم لكرة القدم في قطر. لقد عكس الإنجاز المغربي غير المسبوق عربيا وأفريقيا، ليس “قوة الشخصية” المغربية، بإيمانها الراسخ على قدرتها على مقارعة “الكبار” فحسب، ولكن أيضا لأنها عكست متانة منظومة القيم الحضارية المتفردة، من خلال روح الاسرة التي ظهرت جليا في ملاعب الكرة، عبر أمهات اللاعبين اللواتي احتفلن بإنجاز أبنائهن في الملاعب.

هذا الصعود الصاروخي “لماركة المغرب المسجلة” عكس نفسه من خلال الطفرة التي شهدتها السياحة المغربية، التي بوأته مقعد الريادة القارية، ووسعت بشكل هائل دائرة إشعاع المغرب من خلال الملايين التي قدر لها زيارة المغرب، والتعرف على أهله، والتمتع بأجوائه، ومعايشة غنى وتنوع تراثه وثقافته وصناعته التقليدية. هكذا، أصبح اسم “المغرب” قرينا للنجاح والمثابرة والعزم والتحدي، ولقيم الأسرة و”المعقول” و “النية”! هذه الصورة، تكرست من خلال قدرة المؤسسات والأفراد المغاربة على الترويج لها بشكل هادئ ومتواضع، عبر الفضاء الافتراضي كما في الواقع، وتكرست من خلال النماذج المضيئة للمغاربة في بلدان المهجر، ومهدت الطريق أمام مزيد من النجاحات التي ستتوالى عبر مقبل الأيام.

ولعل ما يغذي هذا التفاؤل، ويمنح المصداقية للتفاؤل بمضاعفة هذه النجاحات، هو احتضان المغرب لحدثين في غاية الأهمية: كأس أفريقيا للأمم في كرة القدم نهاية 2025، وكأس العالم  لكرة القدم في 2030، حيث سيشهد المغرب تدفق الملايين من الأفارقة ومواطني العالم، ليشهدوا بأعينهم مدى تطور المغرب ورقي شعبه، والتحول بالتالي إلى سفراء جدد للملكة الشريفة، الامر الذي يؤهل المغرب للارتقاء في تصنيف القوة الناعمة العالمية (رغم الملاحظات المنهجية عليه) من المرتبة الخمسين حاليا، إلى أحد المراتب العشرين الأولى في زمن قياسي.

وإذا ربطنا هذه النجاحات، بمساهمة المغرب عالميا في حفظ السلام، والحفاظ على المناخ، والمساهمة في حل النزاعات الدولية، يصبح من المنطقي أن يكون المغرب، المرشح الأول لشغل مقعد القارة عند أي توسيع محتمل للعضوية الدائمة في مجلس الامن، نظرا لابتعاده المتسارع عن منافسته المباشرة جنوب أفريقيا، وباقي اللاعبين الإقليميين الأصغر.

إن واقع المغرب اليوم، من ناحية التأثير الأفريقي والدولي، يثبت بما لا يدع مجالا للشك، صواب رؤية الملك محمد السادس للمراهنة على تطوير القوة الناعمة للمغرب، بالموازاة مع باقي عناصر القوة الأخرى، ويجعل المملكة الشريفة، مرة أخرى، رائدة في قارتها، وأحد الفاعلين الأساسيين في العالم.

حول المؤلف

1 thought on “عصر محمد السادس.. سادسا: القوة الناعمة.. الرافعة التي تؤهل المغرب لتبوء الصدارة الأفريقية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *