Morocco's renewal of its outreach policy toward Algeria: towards reviving Maghreb dialogue and overcoming regional isolation.

منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش، تبنّى المغرب خطابًا سياسيًا يقوم على قيم السلم وحسن الجوار والتكامل الإقليمي، خاصة في علاقته مع الجزائر، التي تأثرت لعقود بجمود سياسي مزمن. ورغم هذا الواقع، ظل المغرب متمسكًا بسياسة “اليد الممدودة”، وهي سياسة تنبع من رؤية استراتيجية ترى أن استقرار المنطقة المغاربية وازدهارها لن يتحققا إلا من خلال تجاوز الخلافات الثنائية، وبناء جسور الحوار والتعاون.
شكّل مفهوم “اليد الممدودة” في الخطاب السياسي المغربي، كما عبّر عنه الملك محمد السادس، تحوّلًا في مقاربة العلاقات الثنائية مع الجزائر، إذ لا يُطرح كدعوة عاطفية ظرفية، بل كمبادرة استراتيجية تعكس إرادة ملكية لتجاوز منطق القطيعة وبناء مستقبل مشترك.
وقد جاءت هذه الدعوة بشكل متكرر وواضح في عدد من الخطب الملكية، منذ خطاب العرش في 30 يوليوز 2018، حيث أكد الملك: “إننا مستعدون لفتح صفحة جديدة في علاقاتنا مع الجزائر، تقوم على الثقة المتبادلة والحوار البناء“. وتكررت هذه الرسالة في مناسبات عدة، لتتحول إلى قاعدة ضمنية للسياسة الخارجية المغربية تجاه الجار الشرقي.
فا”اليد الممدودة” في هذا السياق تحمل دلالات متعددة: فهي أولًا دعوة إلى الحوار دون شروط مسبقة، وثانيًا تعبير عن رفض المغرب لمنطق “العدو الأبدي”، وثالثًا محاولة لتفكيك سردية العداء المصطنع التي ترسّخت في الإعلام والسياسات الرسمية الجزائرية.
ومن جهة أخرى، فهي لا تمثّل تنازلًا عن الثوابت، بل تجسّد ما يمكن تسميته بـ”القوة الهادئة”، أي المبادرة نحو السلام من موقع الاستقرار والسيادة، مع الحفاظ على المبادئ الوطنية، خصوصًا ما يتعلق بقضية الصحراء.
فحين يقول جلالة الملك محمد السادس إنه يمد اليد للجزائر، فهو لا يعترف بعداوة دائمة، بل يؤكد أن المغرب منفتح على حوار أخوي وصادق، لتجاوز الخلافات حول قضايا مثل الصحراء، دون التخلي عن السيادة أو المبادئ. وهذا يعكس:
الإيمان بالوحدة المغاربية.
الرغبة في رأب الصدع التاريخي.
رفض منطق “الخصم الأبدي”، واستبداله بمنطق “الشريك المحتمل”.
باختصار، “اليد الممدودة للخصم او للجار ” ليست تنازلاً، بل هي عرض شجاع للسلام من موقع القوة والمسؤولية، وحين يكرر المغرب، في خطب ملكية رسمية، مد اليد إلى الجزائر، فهو لا يتنازل عن قضية الصحراء، لكنه يؤكد أن الخلاف لا يجب أن يُعطّل المصير المشترك للشعبين ، ويضع الجزائر أمام خيارين: الانفتاح والتعاون أو الاستمرار في الجمود.
ففي خطابه بمناسبة عيد العرش لسنة 2025، جدّد الملك محمد السادس دعوته الصريحة للجزائر إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية، مؤكدًا أن “أواصر الأخوة والتاريخ المشترك أقوى من أي خلاف عابر”، ومشددًا على أن “المغرب سيظل دائمًا مستعدًا للحوار دون شروط مسبقة”. هذا الخطاب لم يكن معزولًا عن توجه سياسي ثابت عبّر عنه العاهل المغربي في أكثر من مناسبة، بل يأتي استكمالًا لسلسلة من المبادرات التي أطلقها منذ 2008، والتي هدفت إلى تليين الموقف الجزائري، وإرساء منطق الشراكة بدل الصراع.
تمثل سياسة “اليد الممدودة” أحد أبرز التعبيرات عن الرؤية المغربية لطي صفحة التوتر مع الجزائر، وهي تعكس في جوهرها رغبة في تجاوز منطق الحرب الباردة المغاربية، والانطلاق نحو بناء نظام إقليمي قائم على المصالح المشتركة. فهذه السياسة لا تنبع من موقع ضعف، بل من إيمان المغرب العميق بأن استقرار شمال إفريقيا يمر عبر مصالحة تاريخية بين البلدين الجارين.
وفي الجوهر تعني “اليد الممدودة” رفض منطق العزلة والعداء الدائم، والدعوة إلى تجاوز الخلافات عبر الحوار والتفاوض. وهي بذلك تُشكّل خطوة أولى نحو إعادة تشكيل العلاقات المتوترة على أسس جديدة. ووفقًا لنظرية التعاون الدولي (Keohane & Nye, 1977)، فإن الحوار المباشر أداة مركزية لتقليص النزاعات وبناء الثقة. المثال الكلاسيكي لذلك يتمثل في فتح الولايات المتحدة حوارًا دبلوماسيًا مع الصين في سبعينيات القرن الماضي، ما مهّد لتحولات استراتيجية كبرى.
غالبًا ما تكون “اليد الممدودة” إعلانًا عن حسن نية دبلوماسي، يُراد به طمأنة الطرف الآخر والتأكيد على الرغبة في حل سلمي متوازن. وهي بمثابة التزام رمزي بالسلام، يعكس نضج الدولة وقدرتها على الانفتاح من دون التفريط بالثوابت. وفي هذا السياق، تذكّرنا المبادرة العربية للسلام عام 2002 بكيفية توظيف حسن النية الدبلوماسية كمدخل لإطلاق حوار بنّاء حتى في أصعب الملفات.
كما تُعد “اليد الممدودة” موقفًا سياسيًا وأخلاقيًا في آن، ينقل الدولة من موقع رد الفعل إلى موقع المبادرة. المغرب، عبر هذه السياسة، يقدم نفسه كطرف مسؤول يرفض الانغلاق، ويحمّل الطرف الآخر مسؤولية استمرار القطيعة. ووفقًا لنظرية العلاقات الاجتماعية (Wendt, 1999)، فإن المبادرات الرمزية تشكّل آليات لإعادة تشكيل الأدوار والهويات بين الدول، بما يفتح المجال لتفاهمات طويلة الأمد.
من المهم التأكيد هنا على أن اليد الممدودة لا تعني بأي حال من الأحوال التخلي عن المصالح الحيوية أو القضايا السيادية. إنها، ببساطة، عرض لحل النزاعات عبر الوسائل السياسية بدل المواجهات. وكما يشير جوزيف ناي (Nye, 2004)، فإن استخدام “القوة الناعمة” يُعدّ تعبيرًا عن وعي استراتيجي وقدرة على قيادة التغيير من موقع التأثير لا الإكراه.
إن اليد الممدودة تجسد أهمية الدبلوماسية في إرساء قواعد السلام والأمن في النظام الدولي. فهي أداة لتحويل النزاعات من شكلها العنيف إلى حوارات بناءة، ما يسمح للدول بالحفاظ على سيادتها ويعزز من احترام القانون الدولي. ووفقًا لنظرية البناء الاجتماعي للعلاقات الدولية (Adler, 1997)، فإن هذه المبادرات تُعيد تشكيل الإدراكات والأدوار بين الدول بما يسهل التعاون.
فرص التعاون المغاربي: المكاسب الممكنة من استجابة الجزائر لليد الممدودة المغربية
لو استجابت الجزائر لليد الممدودة من المغرب، فإن ذلك قد يُفضي إلى مكاسب استراتيجية وتنموية كبرى للشعبين المغربي والجزائري، من أبرزها: إنهاء القطيعة السياسية وفتح قنوات الحوار الدبلوماسي، مما يسهم في تهدئة التوتر الإقليمي؛ إحياء مشروع الاتحاد المغاربي، وتحقيق اندماج اقتصادي يعزز من القدرة التفاوضية للمنطقة على الساحة الدولية؛ تعزيز التبادل التجاري والبشري بين البلدين، بما ينعكس إيجابًا على فرص العمل وتحسين مستويات المعيشة؛ توحيد الجهود في قضايا الأمن الإقليمي، لا سيما في مكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية؛ استغلال الموارد بشكل مشترك، مثل مشاريع الطاقة والربط البري واللوجستي، خصوصًا عبر المحيط الأطلسي؛ وتخفيف الأعباء النفسية والسياسية عن الشعوب التي ظلت لعقود ضحية للخطابات العدائية والانغلاق.
إن سياسة اليد الممدودة التي ينهجها المغرب بقيادة العاهل المغربي محمد السادس لا يُعدّ فقط خطوة نحو إنهاء أزمة ثنائية مزمنة، بل تحمل نزعة استشرافية تهدف الى تحقيق انفراج حقيقي في العلاقات بين المغرب والجزائر و يحمل في طياته مكاسب استراتيجية متعددة لكلا البلدين وللمنطقة المغاربية بأكملها. فعلى المستوى الاقتصادي، يفتح التقارب آفاقًا واعدة لإنشاء سوق مغاربية موحدة تضم أكثر من 100 مليون نسمة، بما يعزز الجاذبية الاستثمارية للمنطقة، ويزيد من قدرتها التفاوضية في مواجهة التكتلات الاقتصادية الكبرى
وفي ظل التحولات الجيوسياسية الجارية، يشكّل التعاون المغربي الجزائري عنصرًا حاسمًا لإعادة بناء توازنات إقليمية تقوم على منطق التكامل لا التنافس العدائي، وخاصة في قضايا مثل الأمن الطاقي، والهجرة، ومكافحة الإرهاب في الساحل والصحراء.
أما على المستوى الرمزي والسياسي، فإن تجاوز القطيعة يرسل رسالة قوية إلى شعوب المنطقة والعالم بأن منطق المصالحة والانفتاح ممكن في العالم العربي، وهو ما من شأنه أن يضع حدًا لعقود من الجمود المؤسسي الذي عرفه “الاتحاد المغاربي”، ويمنح دفعة جديدة لفكرة الوحدة المغاربية باعتبارها خيارًا استراتيجيًا لا مجرد شعار تاريخي.
كما أن تحسين العلاقات بين الجارين يمكن أن يسهم في تسوية تدريجية لقضية الصحراء عبر آليات تفاوضية هادئة، تحفظ سيادة المغرب وتراعي الحساسيات الجزائرية، وتُخرج هذا الملف من منطق المواجهة الصفرية إلى أفق الحل السياسي الواقعي.
ختامًا، تُبرز تجربة مبادرة “اليد الممدودة” كيف يمكن للسياسة أن تتخذ مسارًا مختلفًا في مواجهة أزمات مزمنة، عبر تبني مقاربات تقوم على الحوار، والثقة، والقوة الهادئة. إلا أن نجاح هذه المبادرة مرتبط بشكل مباشر بمدى قدرة الطرف الآخر، أي الجزائر، على تجاوز العقليات القديمة والرهانات الداخلية التي تُفضّل استمرار العداء بدل المصالحة.
ان المغرب يثبت من خلال هذه السياسة أن السلام ليس تنازلًا، بل خيار استراتيجي، وهو متمسك بسيادته ومبادئه، لكنه مستعد دومًا للحوار البنّاء والمسؤول، رغبة في وحدة مغاربية تحقق الازدهار لشعوب المنطقة. ويبقى السؤال مفتوحًا حول ما إذا كانت الجزائر على استعداد لتغيير استراتيجيتها والرد إيجابيًا على “اليد الممدودة”، لتبدأ حقبة جديدة من التعاون والتكامل في شمال أفريقيا.