The aircraft industry in Morocco: a strategic rise towards an advanced global position

شهد المغرب خلال العقدين الماضيين تحوّلاً لافتًا في بنيته الاقتصادية، مدفوعًا برؤية استراتيجية تسعى إلى تنويع مصادر الدخل، وتحقيق اندماج أكبر في الاقتصاد العالمي. وفي هذا السياق، برزت صناعة الطيران كأحد القطاعات الصناعية الواعدة التي تمكنت من تحقيق قفزات نوعية في فترة وجيزة، لتتحول المملكة إلى منصة إنتاجية متقدمة في سلاسل توريد صناعة الطائرات العالمية، وبخاصة في الشق المتعلق بالأجزاء الميكانيكية، والأنظمة الكهربائية، وتصنيع مكونات الطائرات.
رؤية استراتيجية وتخطيط استباقي
لم يكن ولوج المغرب مجال صناعة الطيران نتيجة ظرف عارض، بل ثمرة رؤية استباقية انطلقت مع مطلع الألفية ضمن سياسة التصنيع القطاعي، في إطار “الميثاق الوطني للإقلاع الصناعي”، الذي أولى أهمية خاصة للقطاعات ذات القيمة المضافة العالية والقدرة التصديرية. وقد دعمت الدولة هذه الرؤية عبر إنشاء مناطق صناعية متخصصة، أبرزها “ميدبارك” في النواصر، وتوقيع شراكات استراتيجية مع كبريات الشركات العالمية (بوينغ، إيرباص، سافران، وغيرها)، ما أسّس لمنظومة صناعية متكاملة جعلت المغرب منصة جاذبة للاستثمار في الطيران، بفضل مؤهلاته البشرية وتنافسيته الإنتاجية وموقعه الجغرافي.
صناعة الطيران في المغرب: أرقام دالة ومسار تصاعدي
يشهد قطاع صناعة الطيران في المغرب دينامية متسارعة جعلت منه أحد أبرز روافد الاقتصاد الوطني، ومجالًا استراتيجيًا يعزز تموقع المملكة داخل سلاسل القيمة العالمية المتقدمة. فقد أصبحت هذه الصناعة تشكّل مكونًا رئيسيًا من الصادرات المغربية، مسجلة نموًا متواصلًا في السنوات الأخيرة، ومؤكدة قدرتها التنافسية المتزايدة على الصعيدين الإقليمي والدولي.
ففي عام 2023، بلغت قيمة صادرات هذا القطاع 22( مليار درهم (حوالي 2.2 مليار دولار )، بزيادة 38% مقارنة بعام 2021، ما يعكس طفرة نوعية في الأداء التصديري. أما خلال الخمسة أشهر الأولى من سنة 2024، فقد سجلت صادرات الطيران 10.7مليارات درهم (ما يقارب 1(مليار دولار) بنمو سنوي بلغ 18%، مدفوعة أساسًا بارتفاع مبيعات التجميع.
وبالانتقال إلى الأشهر الأربعة الأولى من عام 2025، حقق القطاع تسجيل نتائج إيجابية، حيث بلغت صادراته 9.5(مليارات درهم ( نحو 1.03 مليار دولار) محققة نموًا نسبته 14% مقارنة بالفترة نفسها من 2024.) ويُعزى هذا التحسن إلى الأداء القوي لفئة التجميع التي حققت مبيعات قدرها 6.2 مليارات درهم (+15.3%)، إلى جانب مبيعات أنظمة الأسلاك الكهربائية التي بلغت 3.3 مليارات درهم (+11.8%).
ان هذه الطفرة التي يعرفها قطاع الطيران في المغرب تعود إلى تفعيل الاستراتيجية الصناعية الوطنية بدعم ملكي، والتي أرست ست منظومات صناعية متكاملة، وعزّزت سلاسل التوريد بشراكات مع شركات رائدة مثل بوينغ andكولينز. ومنذ انطلاقه سنة 2000، تطور القطاع بشكل متسارع، ليصبح المغرب الفاعل الأول إفريقيًا في هذا المجال، ووجهة موثوقة للمستثمرين الدوليين. ويعكس هذا التموقع نجاح المملكة في توفير بنية صناعية متطورة، وكفاءات بشرية مؤهلة، تضم اليوم أكثر من 140 شركة تغطي مختلف مراحل سلسلة القيمة.
فخلال العقد الأخير، سجّل قطاع الطيران معدل نمو سنوي تجاوز 15%، ما يجعله من أسرع القطاعات التحويلية نموًا في المملكة. كما أن ما يفوق 80% من إنتاجه مخصص للتصدير نحو الأسواق الأوروبية والأمريكية، وهو ما يعكس اندماجًا عميقًا في شبكات الإنتاج العالمية، ويؤكد جاذبية المغرب كمركز صناعي واعد.
وفي السياق ذاته، يُعد معدل الإدماج المحلي الذي تجاوز 40% مؤشرًا قويًا على نضج التجربة المغربية في هذا القطاع، بالنظر إلى حداثتها مقارنة بالبلدان المصنعة الكبرى. ويُبرز هذا المؤشر قدرة المملكة على تطوير منظومة صناعية متكاملة، قادرة على استيعاب التكنولوجيا، وتوليد قيمة مضافة محلية، ونقل المهارات والمعرفة.
وفي أفق عام 2030، يطمح المغرب إلى تصنيع طائرة متكاملة 100% داخل ترابه الوطني، في خطوة تعكس رؤية استراتيجية عميقة تهدف إلى تعزيز السيادة الصناعية، وتحقيق قفزة نوعية نحو الصناعات المتقدمة.
قطاع صناعة الطيران في المغرب تنافسية متعددة الأبعاد
يشكّل قطاع صناعة الطيران في المغرب إحدى ركائز الاقتصاد الصناعي الحديث للمملكة، وقد استطاع أن يفرض نفسه كمجال تنافسي متعدد الأبعاد، يجمع بين الكفاءة التكنولوجية، والجدوى الاقتصادية، والجاذبية الاستثمارية، والانخراط في سلاسل القيمة العالمية. ويمكن شرح هذه التنافسية من خلال المحاور التالية:
1- التموقع الاستراتيجي والجغرافي
يشكّل الموقع الجغرافي للمغرب، على بوابة أوروبا وإفريقيا، أحد أبرز عناصر التنافسية. فهو يوفّر قربًا لوجستيًا من الأسواق الأوروبية الكبرى (فرنسا، إسبانيا، ألمانيا)، ويتيح سهولة الربط مع أمريكا الشمالية ودول إفريقيا جنوب الصحراء. هذا القرب يسمح بتقليص آجال التسليم، ما يمنح الشركات المصنعة قدرة تنافسية عالية في الاستجابة لطلبات الزبائن الدوليين، خصوصًا في قطاع يتسم بدقة سلاسل الإمداد.
2- اليد العاملة المؤهلة والتكوين المتخصص
طوّر المغرب منظومة تكوين مهني وأكاديمي مخصصة لقطاع الطيران، على غرار معهد مهن الطيران (IMA) الذي يكوّن مئات المهندسين والتقنيين سنويًا، بالتعاون مع المصنعين الدوليين. هذه المنظومة توفّر يدًا عاملة عالية التأهيل بتكلفة تنافسية مقارنة بالدول الصناعية، مما يُعد أحد أهم عوامل الجذب للشركات الأجنبية.
3- البنية التحتية الصناعية المتخصصة
تم إنشاء مناطق صناعية متكاملة مثل ميدبارك (Midparc) قرب مطار الدار البيضاء، والتي توفّر بيئة صناعية مخصصة للطيران، تشمل خدمات لوجستية، دعمًا حكوميًا، وقربًا من المطارات والموانئ. هذه المناطق تسمح للمصنعين بتركيز نشاطهم في فضاء صناعي فعّال ومترابط، يسهل عمليات الإنتاج والتصدير.
4ـ انخراط في سلاسل القيمة العالمية
شهد قطاع صناعة الطيران المغربي خلال السنوات الأخيرة تحوّلًا نوعيًا بفضل سلسلة من المشاريع الاستراتيجية التي تهدف إلى تعميق الاندماج المحلي في سلاسل القيمة العالمية ورفع مستوى التخصص الصناعي.
في هذا السياق، دشّنت شركة “سابكا المغرب“ سنة 2022 وحدة إنتاج متقدمة بضواحي مطار الدار البيضاء، تُعنى بالتصنيع والتجميع شبه الكامل لهياكل طائرات “PC-12”، ما يمثل نقلة في حجم وتعقيد العمليات الصناعية المنجزة محليًا.
بموازاة ذلك، تم توقيع بروتوكول شراكة مع شركة “كولينز إيروسبيس“ العالمية لإحداث منظومة توريد مخصصة في المغرب، وهي خطوة تُعزّز تموقع المملكة كمركز صناعي موثوق لشركات الطيران الكبرى. كما تم، خلال معرض “فارنبورو” للطيران، توقيع مذكرة تفاهم مع الشركة الكندية “غال إيروسبيس“ لإطلاق وحدة إنتاج للأجزاء الداخلية لمقصورات الطائرات، ما يُسدّ فجوة مزمنة في سلسلة التوريد المحلية.
وفي الاتجاه ذاته، وُقّع اتفاق توطين مع مجموعة “أسيتوري” (Aciturri) الإسبانية لتطوير أنشطة تصنيع مكونات المحركات داخل المنطقة الصناعية “ميد بارك”، مع التزام بنقل التكنولوجيا وتطوير الكفاءات الوطنية.
وتُقدّر الاستثمارات المرتقبة سنة 2024 في هذه المشاريع بنحو 25 مليون دولار، ما يعكس ثقة الشركاء الدوليين في منصة المغرب الصناعية. وتراهن وزارة الصناعة على هذه الشراكات لتعزيز نسبة الاندماج المحلي ورفع القيمة المضافة الوطنية، في أفق ترسيخ موقع المغرب كفاعل متقدم في صناعة الطيران ذات التقنية العالية.
5ـ السياسات الحكومية الداعمة
اعتمد المغرب استراتيجية صناعية موجهة نحو القطاعات الدقيقة عالية القيمة المضافة، مثل صناعة الطيران، من خلال برامج حكومية مخصصة، ودعم مالي وضريبي للمستثمرين، وتوفير العقار الصناعي، والمواكبة التقنية. كما تم توقيع شراكات كبرى مع الفاعلين الدوليين (مثل اتفاق بوينغ لتوطين 120 موردًا في المغرب).
6ـ التكلفة التنافسية
رغم الجودة العالية للتكوين والإنتاج، يظل المغرب بلدًا منخفض التكلفة مقارنةً بفرنسا، كندا، أو الولايات المتحدة. تكلفة اليد العاملة، والطاقة، والعقار الصناعي، والنقل تظل أقل، مما يمنح المصنعين هامش ربح أكبر وقدرة أكبر على التحكم في التكاليف.
7ـ الابتكار والانتقال نحو التصنيع الذكي
بدأ المغرب يواكب التحولات نحو التحول الرقمي والابتكار الصناعي في قطاع الطيران. هناك تجارب ناشئة في مجالات التصنيع باستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد، والتحكم الذكي في سلاسل الإنتاج، والتكوين عن بعد، ما يُبرز استعداد المغرب للانتقال إلى المرحلة التالية من التنافسية الصناعية.
8ـ السمعة والموثوقية
بعد عقدين من العمل في المجال، راكم المغرب سمعة موثوقة لدى المصنعين الدوليين، بفضل الجودة، والالتزام بالمواعيد، والاستقرار السياسي. هذا ما جعل العديد من الشركات توسع نشاطها، وتحوّل وحدات إنتاج من دول أخرى إلى المغرب.
9ـ الإطار القانوني والاستثماري المحفز: من خلال اتفاقيات تجنب الازدواج الضريبي، وتوفير دعم مباشر من صندوق الحسن الثاني للتنمية الصناعية.
الشراكات الاستراتيجية: مفتاح الصعود
يشكّل النمو المتسارع لصناعة الطيران في المغرب نتاجًا مباشرًا لاستراتيجية شراكات ذكية ومتعددة المستويات، جعلت المملكة فاعلًا موثوقًا ضمن سلاسل القيمة العالمية. وقد ساهم هذا التوجه في توطين الصناعة، ونقل التكنولوجيا، وبناء منظومة إنتاج عالية الكفاءة.
تم نسج شراكة استراتيجية متقدمة بين المغرب ومجموعة سافران Safran الفرنسية، تُعدّ من بين الأكثر تكاملًا في القطاع. لا تقتصر هذه الشراكة على التصنيع فحسب، بل تُوجَّه نحو إعادة هيكلة سلسلة القيمة المحلية من خلال توطين إنتاج مكونات عالية التقنية كأجزاء المحركات والأنظمة الكهربائية والمقاعد الداخلية. ويهدف هذا التعاون إلى تعزيز تنافسية العرض الصناعي المغربي عبر تطوير شبكة موردين محليين قادرين على الاستجابة لمعايير الجودة الدولية، مع مواكبة مستمرة لرفع قدراتهم التقنية والإنتاجية.
في موازاة ذلك، تم توجيه استثمارات مشتركة نحو البحث والابتكار والخدمات الهندسية المتقدمة، ما يُشكّل انتقالًا نوعيًا من التصنيع إلى تطوير المحتوى المعرفي والتكنولوجي. كما أولت الشراكة اهتمامًا خاصًا لتنمية رأس المال البشري من خلال دعم التكوين الهندسي وربط الجامعات ومؤسسات التعليم العالي بمسارات مهنية تتماشى مع متطلبات الصناعة، ما يعزّز الاستدامة البشرية والتقنية للقطاع على المدى الطويل.
وفي قلب هذه الدينامية، وبالإضافة الى الشراكة مع “سافران ” برزت شراكات استراتيجية مع كبار المصنعين الدوليين مثل بوينغ، إيرباص، ، ما مكّن من استقطاب استثمارات نوعية وإحداث منظومات إنتاج متخصصة، خاصة في مجالات الهياكل، الأنظمة الكهربائية، وقطع المحركات. كما توجت شراكة المغرب مع بوينغ بإطلاق “منظومة صناعية” تستهدف جذب أكثر من 100 مورد صناعي نحو السوق المغربية.
بالتوازي، رافقت هذه الشراكات جهود حثيثة لنقل المعرفة، من خلال إحداث معهد مهن الطيران (IMA) وتطوير برامج تكوين وفق المعايير الدولية، إلى جانب مشاريع البحث والتطوير في المواد المتقدمة والتصنيع الدقيق، ما أرسى قاعدة تكنولوجية متطورة قادرة على الابتكار.
ولم تقتصر الشراكات على الشركات الكبرى، بل شملت منظومة من المقاولات الصغيرة والمتوسطة، التي تم دمجها في سلاسل التوريد الدولية، ما عزّز القيمة المضافة المحلية ورفع من جودة المعايير الصناعية الوطنية.
في السياق ذاته، شكّلت الشراكات الحكومية والمؤسساتية مع الاتحاد الأوروبي وكندا وفرنسا إطارًا داعمًا للاستثمار، من خلال التمويل المشترك ونقل الخبرة التقنية والتنظيمية.
ومنذ 2014، اعتمد المغرب نهج المنظومات الصناعية (Écosystèmes) لتنسيق الجهود بين الفاعلين الصناعيين، وتحقيق التكامل بين الشركات الكبرى والموردين المحليين، وهو ما أسهم في خفض الكلفة، ورفع الإنتاجية، وتعزيز تنافسية القطاع.
تؤكد التجربة المغربية أن الشراكات تساعد في نقل التكنولوجيا والمعرفة وتحسين المهارات التقنية المحلية وتعزز من قدرة المغرب على المنافسة في السوق العالمية ، بذلك فان الشراكات الاستراتيجية ليست فقط أداة للتوسع الصناعي، بل رافعة هيكلية للتموقع ضمن صناعات المستقبل عالية القيمة والتكنولوجيا.
وعلى العموم ، يعكس مسار تطور صناعة الطيران في المغرب انتقالًا نوعيًا من الاستيعاب التكنولوجي إلى التموقع الإنتاجي الفعال داخل سلاسل القيمة العالمية. ومع تراكم الخبرات وتنامي الاستثمارات، يرسّخ المغرب مكانته كفاعل صناعي موثوق، ويعزز طموحه في التحول إلى مركز قارّي متقدم في صناعة الطيران، كما فعل في قطاع السيارات.