“Project Esther”… When Israel buys American public opinion!!

introduction
تُشكّل الدعاية السياسية أحد أبرز أدوات الصراع في العلاقات الدولية الحديثة، حيث لم يعد النفوذ يُقاس فقط بالقوة العسكرية أو الاقتصادية، بل بقدرة الدول على توجيه الرأي العام وصناعة التصورات الجماعية. وفي هذا السياق، تكشف الوثائق الأمريكية الأخيرة عن حملة إسرائيلية واسعة النطاق، عُرفت باسم “مشروع استير” (Project Esther)، تستهدف الرأي العام الأمريكي من خلال مؤثري وسائل التواصل الاجتماعي، مقابل مبالغ مالية ضخمة تصل إلى 7 آلاف دولار لكل منشور.
هذه الحملة التي تُقدَّر ميزانيتها الإجمالية بنحو 900 ألف دولار، تمثل نموذجًا جديدًا من حروب التأثير الرقمي، حيث تمتزج الإعلانات السياسية بالمحتوى الثقافي والترفيهي لتسويق خطاب سياسي موجَّه، يهدف إلى تحسين صورة إسرائيل في ظل التراجع المتزايد لدعمها الشعبي داخل الولايات المتحدة.
أولًا: خلفية الحملة وسياقها السياسي
تأتي هذه الحملة في مرحلة تتسم باضطراب غير مسبوق في صورة إسرائيل الدولية، خاصة بعد الحرب المدمّرة على غزة، وما رافقها من اتهامات بانتهاك القانون الدولي الإنساني وارتكاب جرائم الإبادة الجماعية بحق المدنيين الفلسطينيين . وقد انعكس هذا الوضع في تراجع التأييد الشعبي الأمريكي لإسرائيل، خصوصًا بين فئة الشباب التقدميين وجيل “زد” (Z)، الذين أظهروا عبر المنصات الرقمية رفضًا متزايدًا لسياسات الاحتلال.
أمام هذا التحوّل في المزاج العام الأمريكي، لجأت إسرائيل إلى إعادة هيكلة خطابها الإعلامي عبر أدوات “القوة الناعمة“، معتمدة على المؤثرين الرقميين باعتبارهم وسطاء جدد لصناعة الرأي العام، أكثر فاعلية وتأثيرًا من المؤسسات الإعلامية التقليدية التي فقدت مصداقيتها لدى الأجيال الجديدة.

ثانيًا: تفاصيل “مشروع استير” وبنيته التنظيمية
تُظهر السجلات المقدَّمة إلى وزارة العدل الأمريكية، وفقًا لما نشره موقع تايمز أوف إسرائيل، أن الحكومة الإسرائيلية أطلقت حملة مزدوجة المسار تجمع بين الإعلانات السياسية الضخمة وحملات المؤثرين تحت مسمى “مشروع استير”.
وتتولى إدارة المشروع شركة “بريدجز بارتنرز” (Bridges Partners)، التي أسسها المستشاران الإسرائيليان يائير ليفي andأوري شتاينبرغ في ولاية ديلاوير الأمريكية في يونيو 2025. وتعمل الشركة لصالح وزارة الخارجية الإسرائيلية عبر فرع ألماني تابع لشركة العلاقات العامة العالمية “هافاس“، ما يمنحها غطاءً تجاريًا يبعد الشبهات المباشرة عن التمويل الحكومي الإسرائيلي.
أما من الناحية المالية، فتشير الوثائق إلى أن الشركة تلقت 200 ألف دولار كدفعة أولى لتوظيف المؤثرين وتنسيق المحتوى، ضمن خطة تسمح بصرف ما يصل إلى 900 ألف دولار خلال الفترة من يونيو إلى نوفمبر 2025. وتشمل هذه المبالغ تكاليف الإنتاج، وأجور المؤثرين، وتطوير الأفكار، وتقارير الأداء. وبحسب ما ورد في موقع Responsible Statecraft، فإن المؤثرين يحصلون على مبالغ تتراوح بين,6000 و 7000 دولارًا لكل منشور، ما يجعل العمل مع إسرائيل “أمرًا مربحًا للغاية”، كما وصفت الوثيقة نفسها.
ثالثًا: آلية التنفيذ والدعاية الرقمية الموجّهة

تعمل الحملة وفق خطة مرحلية، تُشرك ما بين 14 إلى 18 مؤثرًا، بحيث يُنشر من خلالهم ما بين 75 إلى 90 منشورًا عبر منصات مثل تيك توك وإنستغرام ويوتيوب. ويتراوح إنتاج كل مؤثر بين 25 و30 منشورًا شهريًا، مما يعني أن الحملة تستهدف إغراق الفضاء الرقمي بمحتوى متكرر يقدّم رواية إيجابية عن إسرائيل.
تتضمن الرسائل الأساسية للحملة الحديث عن “القيم المشتركة” بين إسرائيل والولايات المتحدة، و”التهديدات التي تواجهها اسرائيل “، و”مكافحة معاداة السامية”، في حين تُهمَّش أو تُشوَّه الرواية الفلسطينية. وبذلك تتحوّل الدعاية إلى تلاعب ناعم بالوعي الجماعي، يستخدم أدوات الترفيه والثقافة الرقمية لتطبيع الاحتلال وإعادة صياغة مفاهيم العدالة.

وفي هذا السياق، يكتسب اللقاء الذي جمع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعدد من المؤثرين الأمريكيين في القنصلية الإسرائيلية بنيويورك أهمية رمزية بالغة، إذ أكد نتنياهو بنفسه أن الرد على الانتقادات الدولية يتم عبر هؤلاء المؤثرين، قائلاً: “علينا أن نردّ… عبر مؤثرينا“، ما يعكس الرهان الرسمي على شبكات التأثير الاجتماعي كوسيلة لتعويض العجز في الخطاب الدبلوماسي التقليدي.
رابعًا: البعد الأخلاقي والسياسي للحملة
من منظور نقدي، يعكس “مشروع استير” تحولًا خطيرًا في استخدام أدوات الإعلام الرقمي، من فضاء للتعبير الحر إلى منصة دعائية ممولة تتلاعب بالعقول تحت غطاء “المحتوى الثقافي”. إنّ استئجار مؤثرين للترويج لدولة متورطة في انتهاكات موثقة لحقوق الإنسان، يمثل شكلًا من “التضليل المنظم“ الذي يُفرغ حرية التعبير من مضمونها.
كما أن تمويل دولة أجنبية لحملات داخل المجتمع الأمريكي يثير تساؤلات قانونية تتعلق بقانون تسجيل الوكلاء الأجانب (FARA)، الذي يلزم الجهات التي تعمل لصالح حكومات أجنبية بالكشف عن طبيعة أنشطتها ومصادر تمويلها.
إلا أن استخدام شركات وسيطة ذات طابع تجاري – كما في حالة “هافاس” و”بريدجز بارتنرز” – يُتيح لإسرائيل مساحة واسعة للمناورة القانونية والإعلامية، ويمنحها القدرة على تسويق خطابها دون أن تُتهم رسميًا بالتدخل السياسي.
خامسًا: الدلالات الإستراتيجية للدعاية الإسرائيلية

تكشف هذه الحملة عن تحول استراتيجي في أدوات النفوذ الإسرائيلي داخل الولايات المتحدة، إذ تدرك تل أبيب أن المعركة المقبلة ليست في الكونغرس، بل في الفضاء الرقمي الذي يشكّل الوعي الجمعي للأجيال الجديدة. فبينما ظلّت إسرائيل لعقود تعتمد على اللوبيات التقليدية مثل “إيباك” لتأمين الدعم السياسي، فإنها اليوم تراهن على المؤثرين الذين يتمتعون بقدرة مباشرة على مخاطبة الجمهور بلغة بسيطة ومؤثرة.
بهذا المعنى، يتحوّل “مشروع استير” إلى نسخة رقمية من اللوبي الصهيوني، حيث تُستبدل القاعات المغلقة بمنصات التواصل، والمقالات الدعائية بمقاطع الفيديو القصيرة الموجّهة بعناية. إنها محاولة لتجميل الاحتلال عبر أدوات “الذكاء الإعلامي” الذي يخاطب العاطفة بدل العقل، والترفيه بدل النقاش السياسي الرصين.
سادسًا: تفكيك الخطاب وتناقضاته
يحمل اسم الحملة نفسه “استير” رمزية توراتية، إذ يشير إلى شخصية الملكة اليهودية التي أنقذت شعبها من الإبادة، وهو ما يُراد توظيفه رمزيًا لإعطاء بعد بطولي لمهمة الدفاع عن إسرائيل في الفضاء العام. غير أن هذا التوظيف الديني–السياسي يكشف في جوهره رغبة في استدرار التعاطف الغربي عبر خطاب الضحية الأبدية، رغم أن إسرائيل تمارس في الواقع سياسات احتلال ممنهج وقمع للشعب الفلسطيني.
كما أن الحديث عن “تعزيز التبادل الثقافي بين الولايات المتحدة وإسرائيل” يخفي وراءه مشروعًا لتطبيع صورة الدولة العبرية في الوعي الأمريكي، لا سيما في الجامعات والأوساط الفنية التي بدأت تميل إلى مقاطعة إسرائيل ثقافيًا وأكاديميًا.
إذن، فالحملة ليست مجرد ترويج إعلامي، بل جزء من إستراتيجية أشمل لإعادة إنتاج الشرعية السياسية والأخلاقية للاحتلال في مواجهة موجة المقاطعة والانتقاد المتصاعدة عالميًا.
سابعًا: الإعلام الموجّه وخطر اختراق الفضاء العام
يمثل “مشروع استير” نموذجًا واضحًا على ما يمكن تسميته بـ”خصخصة الدعاية”، حيث تتحول الحملات الحكومية إلى عقود تجارية تُدار من قبل شركات تسويق وإعلانات. وبهذا تُمحى الحدود بين المحتوى الدعائي والمحتوى الترفيهي، فيصبح من الصعب على المتلقي تمييز الرسائل الموجّهة من الآراء العفوية.
إن خطورة هذا النمط تكمن في أنه يستغل آليات الثقة التي يبنيها المؤثرون مع جمهورهم. فبينما يتلقى المتابع الرسالة في شكل منشور شخصي أو رأي تلقائي، تكون في الحقيقة نتاجًا لتخطيط سياسي مدفوع الثمن.
وبالتالي، تتحول حرية التعبير من قيمة إنسانية إلى سلعة، ويغدو الوعي الجمعي ميدانًا للمضاربة التجارية والسياسية.
خاتمة: بين الدعاية والسيادة الرقمية
يُظهر “مشروع استير” أن إسرائيل، مثل قوى أخرى في العالم، دخلت مرحلة جديدة من حروب النفوذ الإعلامي، حيث تُدار المعارك بالرموز والصور بدل الدبابات والصواريخ. غير أن هذه الممارسات تطرح سؤالًا جوهريًا حول حدود الأخلاق والسيادة في الفضاء الرقمي: إلى أي مدى يحق لدولة ما أن تشتري ولاء المؤثرين في دولة أخرى؟ وهل يمكن فصل حرية التعبير عن المصالح السياسية حين تختلط بالدولار والدعاية؟
إنّ خطورة هذا النموذج لا تكمن فقط في ما ينطوي عليه من تضليل للرأي العام الأمريكي، بل في كونه يعكس توجها عالميًا نحو تحويل الإعلام إلى أداة ناعمة للهيمنة، حيث يُعاد تشكيل الوعي وفق مصالح القوى الممولة.
وبذلك يصبح “مشروع استير” ليس مجرد حملة إسرائيلية عابرة، بل رمزًا لتحوّل أخلاقي مقلق في علاقة السياسة بالإعلام، حيث تُشترى الحقيقة وتُصاغ القناعات في غرف الوكالات الإعلانية، ويُختزل الوعي الجمعي في منشور ممول بـ7 آلاف دولار.