الحرب في أوكرانيا: محرّم ربحها أو خسارتها على أي من أطراف الصراع!!

بعد مرور ثلاثة أعوام ونصف على الجولة الحالية من الحرب الروسية الأوكرانية (الجولة الأولى تمثلت في سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم في 2014)، يبدو المشهد معقدا بطريقة لا تصدق، لدرجة لا تبدو محاولة التنبؤ بسبل إنهائه متعذرة فحسب، بل إن فهم تعقيداته أصلا تمثل مهمة عسيرة بشكل كبير. لذا، ارتأينا تبسيط أهم العناصر المتعلقة بهذا الصراع، ومحاولة الإجابة على أهم الأسئلة المحيطة به، وعرضها في نقاط مكثفة ومختصرة علّها تسهم في تقديم فهم مبسط لهذا الصراع الجيواستراتيجي المعقد. ورغبة في الاختصار، فقد تجاوزنا الحديث عن مسبباته (رغم أهميته)، وانتقلنا لمحاولة استكشاف الأصعب: مآلاته وفرص تحقيق نهاية قريبة له. لهذا سنبدأ برصد أبرز ملامح مقاربة كل طرف للصراع، من زاوية مصالحه الوطنية:
المقاربة الأوكرانية: “خطة السلام من 10 نقاط”
تعتمد المقاربة الأوكرانية على “صيغة السلام” التي طرحها الرئيس فولوديمير زيلينسكي، وهي خطة من 10 نقاط تهدف إلى تحقيق سلام شامل وعادل. النقاط الأساسية في هذه الخطة تتضمن:
انسحاب القوات الروسية بالكامل: انسحاب القوات الروسية من جميع الأراضي الأوكرانية المحتلة، بما في ذلك شبه جزيرة القرم والمناطق التي تم ضمها مؤخرًا.
استعادة وحدة أراضي أوكرانيا: التأكيد على سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها ضمن حدودها المعترف بها دوليًا قبل عام 2014.
محاسبة روسيا: إنشاء محكمة خاصة لمحاكمة المسؤولين عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
تعويضات مالية: مطالبة روسيا بدفع تعويضات مالية كاملة عن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية والممتلكات الأوكرانية.
ضمانات أمنية: الحصول على ضمانات أمنية قوية وموثوقة لأوكرانيا لمنع أي عدوان مستقبلي، مع إشارة إلى أن هذه الضمانات يجب أن تكون على غرار ضمانات حلف الناتو، لكن دون الانضمام للحلف بشكل فوري.
الموقف الأوكراني يرفض أي تنازلات إقليمية ويرى أن السلام يجب أن يكون مبنيًا على احترام القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.

المقاربة الروسية: “مطالب أمنية وواقع جديد”
تستند المقاربة الروسية على جملة من المطالب التي تعتبرها ضرورية لضمان أمنها القومي. وتتضمن النقاط الرئيسية في هذه المقاربة:
حياد أوكرانيا: التزام أوكرانيا بالحياد وعدم الانضمام إلى أي تحالفات عسكرية مثل حلف الناتو.
الاعتراف بـ “الواقع الجديد”: مطالبة أوكرانيا والأسرة الدولية بالاعتراف بضم روسيا للمناطق الأوكرانية الأربعة (دونيتسك، لوهانسك، خيرسون، زاباروجيا) بالإضافة إلى شبه جزيرة القرم.
الاعتراف باللغة الروسية: منح اللغة الروسية وضعًا خاصًا في أوكرانيا.
رفع العقوبات: رفع العقوبات الدولية المفروضة على روسيا كجزء من أي اتفاق سلام.
الموقف الروسي يرى أن توسع الناتو يمثل تهديدًا مباشرًا لأمنها، وأن أي اتفاق سلام يجب أن يعكس “حقائق الأرض” التي تم تغييرها نتيجة للحرب.
المقاربة الأمريكية “التقليدية”: “دعم أوكرانيا لتقوية موقفها التفاوضي”
المقاربة الأمريكية التي بدأت مع الرئيس السابق جو بايدن، والتي تعتبر تجسيدا للسياسة الأمريكية التقليدية، قبل أن يأتي الرئيس الحالي دونالد ترامب ويحاول إحداث انقلابا فيها (وقد نجح في بعض الجوانب)، سنتطرق له لاحقا. مقاربة تتمركز حول دعم أوكرانيا بشكل مستمر لتمكينها من التفاوض من موقف قوة. النقاط الرئيسية تتضمن:
دعم عسكري واقتصادي: تقديم المساعدات العسكرية والاقتصادية الضخمة لأوكرانيا لتمكينها من الدفاع عن نفسها واستعادة أراضيها.
ضمانات أمنية: مناقشة تقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا، مع التأكيد على عدم إرسال قوات أمريكية للقتال على الأراضي الأوكرانية.
دعم المقاربة الأوكرانية: دعم خطة زيلينسكي للسلام، ورفض أي اتفاق يتضمن تنازلات إقليمية قسرية لأوكرانيا.
مسار تفاوضي: رغم تأكيدها على دعم أوكرانيا، تظهر بعض المؤشرات على أن الولايات المتحدة قد تكون منفتحة على تسهيل محادثات سلام في حال كانت الشروط مواتية وتخدم المصالح الأمريكية والأوكرانية.
الموقف الأمريكي يرى أن إنهاء الحرب يجب أن يكون من خلال اتفاق لا يكافئ العدوان الروسي، وأن أي حل يجب أن يحترم سيادة أوكرانيا.
المقاربة الأوروبية: “الالتزام بالدعم والعقوبات”
تتشابه المقاربة الأوروبية مع الأمريكية في كثير من الجوانب، ولكنها تتميز بتركيزها على أمن القارة الأوروبية ككل. النقاط الرئيسية تتضمن:
التزام طويل الأمد: التأكيد على الالتزام بدعم أوكرانيا “لأطول فترة ممكنة”، سواء عسكريًا أو ماليًا.
العقوبات: الاستمرار في فرض عقوبات اقتصادية صارمة على روسيا لإضعاف قدراتها العسكرية والضغط عليها لإنهاء الحرب.
عدم الاعتراف بالضم: التأكيد على عدم الاعتراف بأي تغييرات حدودية تمت بالقوة، ورفض الاعتراف بضم الأراضي الأوكرانية.
مساعي دبلوماسية: دعم المساعي الدبلوماسية التي تهدف إلى إيجاد حل سلمي، مع التأكيد على أن أوكرانيا وحدها هي من يقرر شروط أي مفاوضات.
الموقف الأوروبي يرى أن الحرب في أوكرانيا تمثل تهديدًا مباشرًا للسلام والاستقرار في أوروبا، وأن أي حل يجب أن يضمن أمن أوكرانيا ويعيد النظام القائم على القواعد الدولية.
ما الجديد الذي أتى به الرئيس ترامب؟
تعتبر مقاربة دونالد ترامب للصراع في أوكرانيا نقطة خلاف رئيسية بينه وبين السياسة الخارجية الأمريكية التقليدية، وتتميز بعدة جوانب جديدة ومثيرة للجدل. يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
الوساطة الشخصية: يضع ترامب نفسه في موقع الوسيط القادر على حل الصراع بسرعة. فقد صرح مراراً أنه قادر على إنهاء الحرب “في غضون 24 ساعة” من توليه منصبه، معتمداً على علاقاته الشخصية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. هذا النهج يختلف عن المقاربة التقليدية التي تعتمد على التحالفات الدبلوماسية والمفاوضات متعددة الأطراف.
التركيز على “اتفاق سلام” وليس “وقف إطلاق نار”: في تطور جديد، أشار ترامب إلى أن الهدف يجب أن يكون التوصل مباشرة إلى “اتفاق سلام” شامل بدلاً من “وقف إطلاق نار” مؤقت، وهي مقاربة تتوافق بشكل أكبر مع الموقف الروسي الذي يرفض الهدن المؤقتة ويسعى إلى تسوية شاملة تخدم مصالحه. هذا الموقف قد يختلف عن ما كان يدعو له سابقًا، وقد يُفسر على أنه تحول في تفكيره أو محاولة للتناغم مع المطالب الروسية.
الضغط على أوكرانيا: يميل ترامب إلى تحميل أوكرانيا مسؤولية أكبر في الوصول إلى حل، ويشير إلى أن المفاوضات يجب أن تتم بسرعة. هناك تقارير تشير إلى أنه قد يدعم فكرة تنازل أوكرانيا عن بعض الأراضي التي سيطرت عليها روسيا كجزء من صفقة سلام، وهو ما ترفضه كييف بشدة. هذا يضع أوكرانيا في موقف صعب وقد يؤثر على دعمها الدولي.
مقاربة “أمريكا أولاً” (America First): يربط ترامب دعم بلاده لأوكرانيا بالمصالح الأمريكية بشكل مباشر، وهو ينتقد حجم المساعدات المالية والعسكرية المقدمة لكييف. يرى أن الولايات المتحدة تنفق الكثير من الأموال التي يمكن استخدامها في الداخل، وأن الدول الأوروبية يجب أن تتحمل عبئًا أكبر في دعم أوكرانيا.
التقليل من شأن الناتو: يرى ترامب أن حلف الناتو قد تجاوز دوره، وأن الدول الأعضاء لا تساهم بما يكفي في ميزانيته. تصريحاته حول “عدم الالتزام” بالدفاع عن الدول التي لا تفي بالتزاماتها المالية أثارت قلقًا كبيرًا في أوروبا، حيث يرى البعض أن ذلك قد يضعف الردع ضد روسيا.
بشكل عام، فإن مقاربة ترامب تتميز بالديناميكية والتركيز على الصفقات الشخصية، وتختلف بشكل كبير عن النهج الأمريكي الحالي الذي يرى في دعم أوكرانيا التزامًا استراتيجيًا لمنع العدوان على الحدود الأوروبية وحماية النظام الدولي. يرى مؤيدو مقاربة ترامب أنها قد توفر طريقًا أسرع لإنهاء الصراع، بينما يرى منتقدوها أنها قد تكافئ العدوان الروسي وتقوض التحالفات الغربية.
التناقض الواضح بين مقاربة ترامب والأوروبيين حول السلام الموعود
التناقض بين مقاربة ترامب والأوروبيين يمثل تحديًا كبيرًا:
ترامب (مقاربة الصفقة): يرى ترامب أن الصراع هو مشكلة يجب حلها بصفقة سريعة، حتى لو تطلب ذلك تقديم تنازلات مؤلمة لأوكرانيا. يركز على المصالح الأمريكية أولاً ويشكك في قيمة التحالفات الأوروبية. يرى أن مسار الدعم العسكري لأوكرانيا مكلف للغاية وبطيء، ويريد تسوية فورية.
الأوروبيون (مقاربة المبادئ): يرى الأوروبيون أن الصراع ليس مجرد نزاع إقليمي، بل هو تهديد مباشر للنظام الأمني الأوروبي بأكمله. يعتمدون على مبادئ القانون الدولي، ورفض تغيير الحدود بالقوة، والدفاع عن سيادة الدول. يرى الأوروبيون أن أي “سلام” يتم الوصول إليه على حساب المبادئ سيشجع روسيا على شن حروب أخرى في المستقبل.
النتيجة المحتملة لهذا التناقض:
إذا اتبع ترامب مقاربة منفردة، فسيؤدي ذلك على الأرجح إلى انقسام عميق داخل التحالف الغربي. أوروبا قد ترفض أي اتفاق يتم التوصل إليه دون مشاركتها، وتستمر في دعم أوكرانيا. هذا السيناريو قد يترك أوكرانيا في موقف حرج، وتضعف قدرتها على المقاومة، مما يصب في النهاية في مصلحة روسيا. باختصار، أي حل يفتقر إلى التوافق بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين سيكون هشاً، وقد يؤدي إلى إطالة أمد الصراع بدلاً من إنهائه.
أسئلة لا بد من طرحها
لكن أمام هذا “الاضطراب” في السياسة الأمريكية، والذي يظهر جليا في قضايا عالمية أخرى كالمناخ والتجارة العالمية وغيرها، هناك بضعة أسئلة تطرح نفسها ولا بد من محاولة الإجابة عليها:
هل توافق “الدولة العميقة” في أمريكا على مقاربة ترامب؟
بشكل عام، لا توافق “الدولة العميقة” على مقاربة ترامب. يُطلق مصطلح “الدولة العميقة” على مجموعة من المؤسسات والخبراء في الأجهزة الحكومية الأمريكية (مثل وزارة الخارجية، البنتاغون، وكالة المخابرات المركزية، والمخابرات الوطنية) الذين يميلون إلى الحفاظ على سياسات ومبادئ ثابتة بغض النظر عن الحزب الذي يتولى السلطة.
لماذا لا توافق؟
مبدأ الردع: “الدولة العميقة” تؤمن بأن أي تنازلات لأي عدو أو خصم هي إشارة ضعف تشجع على مزيد من العدوان. من وجهة نظرها، فكرة “تجميد الوضع” عبر صفقة مع بوتين ستُفسر على أنها مكافأة لروسيا على غزوها لأوكرانيا، وهو ما سيقوض النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.
التحالفات: تعتبر هذه المؤسسات أن حلف الناتو والتحالفات الأوروبية حجر الزاوية في الأمن القومي الأمريكي. مقاربة ترامب التي تقلل من شأن هذه التحالفات وتشكك في جدواها تُرى على أنها خطأ استراتيجي فادح يضعف أمريكا نفسها.
السياسات المؤسسية: السياسة الخارجية الأمريكية التقليدية (وهي سياسة المؤسسات) تركز على دعم الديمقراطيات، ومواجهة التوسع الروسي، والحفاظ على التوازن الجيوسياسي. مقاربة ترامب التي تعتمد على الصفقات الفردية والشخصية تتعارض مع هذه المبادئ المؤسسية.
هل يشكل التزام أوروبا بتمويل الدعم العسكري لأوكرانيا حلاً مقبولاً لترامب؟
قد يكون هذا حلًا مقبولًا جزئيًا لترامب. ترامب يركز على مبدأ “تقاسم الأعباء” ويدّعي أن الولايات المتحدة تتحمل عبئًا ماليًا أكبر من اللازم في دعم أوكرانيا وحلف الناتو. إذا وافقت الدول الأوروبية على زيادة إنفاقها العسكري وتقديم دعم مالي وعسكري كبير لأوكرانيا، فقد يعتبر ترامب أن هذا الأمر “يعوّض” عن انسحاب أمريكا من هذا الصراع.
لكن، هل هذا يكفي؟ الأمر ليس مجرد مال. ترامب يركز أيضًا على فكرة “الصفقة” مع بوتين لإنهاء الحرب، وهي فكرة قد لا يشاركها فيها الأوروبيون. فالموقف الأوروبي يصر على أن أي سلام يجب أن يحترم سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها. لذا، حتى لو تحمل الأوروبيون العبء المالي، فقد يظل ترامب يسعى لفرض صفقة سلام على أوكرانيا، مما سيخلق خلافًا مع أوروبا.
هل يملك ترامب أن يرفع يد الولايات المتحدة عن حماية أوروبا والناتو فعليًا؟
نعم، يملك ترامب نظريا هذه الصلاحية، ولكنها ليست سهلة التنفيذ. كرئيس للولايات المتحدة والقائد العام للقوات المسلحة، يمكن لترامب أن يتخذ قرارًا بسحب القوات الأمريكية من أوروبا، أو تقليل عددها بشكل كبير، أو حتى التهديد بالانسحاب من حلف الناتو بالكامل.
ولكن هناك عوائق:
صلاحيات الكونغرس: لا يمكن للرئيس الانسحاب من المعاهدات الدولية بشكل منفرد. يجب أن يوافق الكونغرس الأمريكي، الذي قد يعترض على هذا القرار. فكثير من أعضاء الكونغرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي يؤمنون بأهمية حلف الناتو.
البيروقراطية: هناك مقاومة بيروقراطية من المؤسسات العسكرية والدبلوماسية التي تؤمن بأن الناتو ضروري للأمن القومي الأمريكي.
الضغوط السياسية: سيواجه ترامب ضغوطًا سياسية هائلة من حلفاء أمريكا في أوروبا، ومن داخل بلاده، وحتى من بعض حلفائه الجمهوريين.
وما هي المآلات المنتظرة حينها؟
إذا تمكن ترامب من رفع يد أمريكا عن حماية أوروبا والناتو، فإن المآلات ستكون دراماتيكية:
تفكك الناتو (فعليًا): سيُعتبر هذا نهاية للحلف كما نعرفه. الدول الأوروبية لن تثق بعد الآن في الالتزام الأمريكي بالدفاع عنها، وستضطر للبحث عن بدائل.
عسكرة أوروبا: ستضطر الدول الأوروبية، خاصة تلك القريبة من روسيا (مثل بولندا ودول البلطيق)، إلى زيادة إنفاقها العسكري بشكل كبير، وبناء قدرات عسكرية منفصلة، وربما إنشاء تحالفات دفاعية جديدة.
زيادة التهديد الروسي: سيعتبر بوتين هذا الانسحاب فرصة ذهبية لزيادة نفوذه في أوروبا الشرقية، وربما حتى التفكير في عمليات عسكرية أخرى ضد دول غير أعضاء في الناتو أو حتى أعضاء سابقين فيه.
فقدان أمريكا لمكانتها: ستفقد الولايات المتحدة مكانتها كقائد للنظام العالمي وقائدة التحالفات الغربية. سينظر إليها كشريك غير موثوق به، مما سيقوض نفوذها الدبلوماسي والاقتصادي على المدى الطويل.

هل يمكن لأوروبا تحمل تبعات انتصار بوتين؟
إن التفكير في أن أوروبا يمكنها “تحمل تبعات انتصار بوتين” هو سيناريو بالغ الخطورة، يحمل في طياته تحولات جيوسياسية عميقة ومؤلمة للقارة. ففكرة القبول بهذا الواقع، حتى تحت ذريعة “الواقعية السياسية”، ستكون بمثابة تغيير جذري لمبادئ الأمن الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية.
تداعيات “الواقعية” على أوروبا
إذا حدث أن وافق ترامب على صفقة مع بوتين تسمح لروسيا بالاحتفاظ بمكاسبها في أوكرانيا، فإن أوروبا ستجد نفسها أمام تحديات لا يمكنها تحملها بسهولة:
فقدان المصداقية والثقة: ستفقد القوى الأوروبية، مثل فرنسا وألمانيا، مصداقيتها في أعين حلفائها، وخاصة أوكرانيا ودول البلطيق وبولندا. هذه الدول، التي وعدتها أوروبا بالوقوف إلى جانبها، ستشعر بالخيانة، وسينهار أي شعور بالوحدة الأوروبية في مواجهة التهديد الروسي.
إعادة تشكيل ميزان القوى: سيعتبر انتصار بوتين في أوكرانيا سابقة خطيرة. سيعزز ذلك من نفوذ روسيا في أوروبا الشرقية، وربما يشجعها على ممارسة ضغوط أكبر على دول أخرى مجاورة لها. فإذا أثبتت موسكو أن بإمكانها تغيير الحدود بالقوة دون عواقب، فإن هذا سيقوض الأمن الجماعي في أوروبا بأكمله.
الخطر على الناتو: إن قبول ترامب بانتصار روسيا في أوكرانيا هو بمثابة إضعاف غير مسبوق لحلف الناتو. فأساس الحلف هو التضامن والدفاع الجماعي. إذا تخلت الولايات المتحدة عن حماية دولة تعتبر شريكة أساسية، فإن دول الناتو ستشكك في التزام أمريكا بحماية بقية أعضاء الحلف، مما قد يؤدي إلى تفككه الفعلي.
الاستسلام أم المواجهة؟
في مواجهة هذا الواقع المرير، سيكون أمام أوروبا خياران:
الخيار الأول: “الاستسلام” للواقعية: قد تضطر أوروبا إلى القبول بالواقع الجديد، وتتخلى عن فكرة مواجهة روسيا عسكرياً. هذا سيؤدي إلى:
زيادة الإنفاق الدفاعي: ستضطر الدول الأوروبية إلى زيادة ميزانياتها العسكرية بشكل كبير لبناء قدرات دفاعية مستقلة عن الولايات المتحدة. هذا سيؤثر على اقتصادياتها وخططها الاجتماعية.
تغير في التحالفات: قد تبدأ بعض الدول الأوروبية في التفكير في إقامة تحالفات دفاعية جديدة فيما بينها، أو حتى البحث عن علاقات أفضل مع روسيا بشكل فردي، مما سيؤدي إلى انقسام القارة.
التضحية بالمبادئ: ستكون أوروبا قد ضحت بالمبادئ التي قامت عليها بعد الحرب العالمية الثانية، وهي احترام سيادة الدول، وسيادة القانون، وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
الخيار الثاني: “المواجهة” ورفض الواقعية: قد ترفض أوروبا القبول بانتصار بوتين، وتستمر في دعم أوكرانيا، حتى لو كانت الولايات المتحدة قد تخلت عن دورها. هذا السيناريو سيؤدي إلى:
خلاف عميق مع الولايات المتحدة: ستجد أوروبا نفسها على خلاف علني وعلني مع الولايات المتحدة، مما قد يؤدي إلى نهاية التحالف التقليدي.
عبء اقتصادي أكبر: ستتحمل أوروبا وحدها العبء المالي والعسكري الضخم لدعم أوكرانيا، مما قد يؤدي إلى أزمات اقتصادية داخلية وصراعات سياسية.
مخاطر التصعيد: المواجهة الأوروبية الفردية مع روسيا قد تزيد من مخاطر التصعيد العسكري، وقد يجد بوتين الفرصة لتفريق الصف الأوروبي.
بشكل عام، فإن أوروبا لا يمكنها تحمل تبعات انتصار بوتين بسهولة. ففكرة “الواقعية” التي قد يطرحها ترامب لإضفاء الشرعية على مكاسب روسيا هي في الحقيقة كارثة استراتيجية لأوروبا. فقبول هذا الواقع سيعني أن القارة ستصبح عرضة لتهديدات روسية مستقبلية، وستخسر مكانتها كقوة عالمية، وستضحي بمبادئها وقيمها. إن الدفاع عن أوكرانيا هو، في جوهره، دفاع عن الأمن الأوروبي نفسه.
الخطوط الحمراء الأوكرانية والروسية؟
الآن، وبالعودة إلى الصراع نفسه، وحتى نفهمه بشكل أفضل، من المفيد إلقاء نظرة على ما يمكن اعتباره خطوطا حمراء، جغرافية بالأساس، التي يصعب تصور انحدار أحد الطرفين دونها، وإن كانت تقبل -في ظروف معينة- التفاوض على ما عداها. معرفة هذه الخطوط الحمراء يفيد في الخوض في المآلات المحتملة لهذا الصراع. مبدئيا، تحمل كل من روسيا وأوكرانيا “خطوطًا حمراء” جغرافية وسياسية لا يمكن التنازل عنها، وهي التي تجعل أي مفاوضات سلام صعبة للغاية. يمكن تلخيص هذه الخطوط الحمراء على النحو التالي:
الخطوط الحمراء الجغرافية لدى روسيا:
شبه جزيرة القرم: تعتبر روسيا القرم جزءًا لا يتجزأ من أراضيها منذ ضمها في عام 2014. هذا الموقف مبدئي وثابت، وتعتبر موسكو أن أي نقاش حول وضع القرم غير وارد. تعتبر القرم بالنسبة لروسيا ذات أهمية استراتيجية قصوى، فهي تضمن سيطرتها على البحر الأسود وقاعدة أسطولها.
المناطق الأربع المضمومة حديثاً: بعد إجراء استفتاءات (غير معترف بها دولياً)، ضمت روسيا مقاطعات دونيتسك، لوهانسك، خيرسون، وزاباروجيا. تعتبر موسكو هذه المناطق “أراضي روسية جديدة”، وتؤكد أنها لن تتخلى عنها أبدًا. بالنسبة لها، يمثل الدفاع عن هذه الأراضي دفاعًا عن السيادة الروسية.
الممر البري إلى القرم: يعتبر الممر البري الذي يربط روسيا بشبه جزيرة القرم عبر المناطق الساحلية الأوكرانية المحتلة حاليًا (دونيتسك، زاباروجيا، خيرسون) خطًا أحمر استراتيجيًا. يضمن هذا الممر إمداد القرم وسلامة قاعدتها العسكرية، وهو ضرورة استراتيجية قصوى لروسيا.
الخطوط الحمراء الجغرافية لدى أوكرانيا:
استعادة الحدود المعترف بها دوليًا: الخط الأحمر الأساسي لأوكرانيا هو استعادة جميع أراضيها ضمن حدودها الدولية المعترف بها عام 1991. وهذا يشمل شبه جزيرة القرم ومناطق دونباس، بالإضافة إلى الأجزاء التي ضمتها روسيا مؤخرًا.
رفض أي تنازلات إقليمية قسرية: يصر الرئيس زيلينسكي على أن السلام لا يمكن أن يتحقق على حساب الأراضي الأوكرانية. بالنسبة لأوكرانيا، أي تنازل إقليمي سيؤدي إلى تآكل سيادتها وتشجيع روسيا على شن هجمات أخرى في المستقبل. يعتبرون أن التنازل عن الأراضي هو مكافأة للعدوان الروسي.
الوصول إلى البحر: تعتبر السيطرة على المناطق الساحلية على بحر آزوف والبحر الأسود، مثل ميناء ماريوبول وخيرسون، ضرورة اقتصادية حيوية لأوكرانيا. التنازل عن هذه المناطق يعني خنق اقتصاد البلاد وقطع وصولها إلى الموانئ الحيوية، وهو ما ترفضه كييف بشدة.
وهكذا، يبدو جليا أن الخطوط الحمراء لدى الطرفين متناقضة تمامًا. روسيا تعتبر الأراضي التي ضمتها جزءًا من سيادتها، بينما تعتبرها أوكرانيا أراضي محتلة يجب استعادتها. هذا التناقض الجوهري يجعل أي “حل وسط” جغرافي صعبًا للغاية.
بالنسبة لروسيا: التفاوض حول مصير القرم أو المناطق المضمومة حديثًا هو أمر غير وارد من الناحية المبدئية، وهو أساس سياستها الحالية.
بالنسبة لأوكرانيا: التنازل عن شبر واحد من الأراضي هو خيانة لمبدأ السيادة الذي تحارب من أجله، وهو ما سيقوض شرعية الحكومة الأوكرانية ومطالبتها بالمساعدات الدولية.
هذا التناقض هو السبب الرئيسي لجمود المحادثات الدبلوماسية، وهو ما يفسر استمرار الصراع العسكري على الأرض.

الوضع العسكري: واقع واحتمالات ورهانات
وحتى تكتمل صورة الوضع الراهن، من الضروري إلقاء نظرة على الواقع العسكري الحالي للصراع. لا يمكن الجزم بشكل قاطع بأي طرف أقرب إلى تحقيق نصر عسكري شامل في الحرب، نظرًا لتعقيدات المشهد العسكري وتغير ميزان القوى بمرور الوقت. لكن يمكن تحليل مسار المعارك والاحتمالات الواقعية بناءً على الأداء العسكري لكل طرف ونقاط قوته وضعفه.
مسار المعارك: بين المفاجأة والصمود والركود
مرت الحرب بثلاث مراحل رئيسية أظهرت ديناميكيات مختلفة:
مرحلة الصدمة والصمود (بداية الحرب 2022):
بدأت الحرب بتفوق روسي ساحق على الورق، حيث كانت روسيا تملك جيشًا أكبر وميزانية دفاعية أعلى بكثير. توقع الكثيرون انهيارًا سريعًا لأوكرانيا.
لكن القوات الأوكرانية أظهرت صمودًا غير متوقع، ونجحت في إفشال الهجوم الروسي على كييف وإجبار القوات الروسية على الانسحاب من شمال البلاد.
في هذه المرحلة، كانت أوكرانيا هي الأقرب لتحقيق نصر دفاعي، حيث استطاعت حماية عاصمتها وإظهار تصميمها على المقاومة.
مرحلة الهجوم المضاد الأوكراني (خريف 2022):
بفضل المساعدات الغربية والروح القتالية العالية، شنت أوكرانيا هجومين مضادين ناجحين بشكل لافت في خاركيف وخيرسون.
أدى هذا إلى استعادة مساحات كبيرة من الأراضي، مما عزز من معنويات الجيش الأوكراني وأقنع الغرب بجدوى الدعم.
في هذه المرحلة، بدا أن أوكرانيا هي التي تملك زمام المبادرة العسكرية، وأنها قادرة على استعادة أراضيها.
مرحلة حرب الاستنزاف والجمود (منذ منتصف 2023):
مع فشل الهجوم الأوكراني المضاد في صيف 2023، تحولت الحرب إلى صراع استنزاف بطيء ومكلف.
على الرغم من استمرار روسيا في التقدم ببطء على بعض الجبهات، خاصة في الشرق، إلا أنها لم تحقق أي اختراق استراتيجي كبير.
في هذه المرحلة، لا يمكن ترجيح كفة أي طرف بشكل حاسم، فالوضع على الأرض يتسم بالجمود النسبي، حيث يكسب كل طرف أمتاراً قليلة مقابل خسائر بشرية ومادية ضخمة.
احتمالات تغيير المعادلات العسكرية
تبقى هناك متغيرات دراماتيكية يمكن أن تغير مسار الحرب في المستقبل.
الرهان الأكبر لروسيا: التفوق العددي والقدرة الصناعية.
تتمتع روسيا بتفوق كبير في القوة البشرية، حيث يمكنها حشد عدد أكبر من الجنود.
لدى روسيا أيضًا قدرة صناعية عسكرية أكبر، مما يسمح لها بإنتاج كميات كبيرة من الذخائر والمعدات دون الاعتماد على الخارج.
تعوّل روسيا على استراتيجية “الطحن”، حيث تراهن على أن أوكرانيا ستستنزف مواردها البشرية والمادية في نهاية المطاف.

الرهان الأكبر لأوكرانيا: الدعم الغربي والتفوق التكنولوجي.
تعتمد أوكرانيا بشكل حاسم على الدعم العسكري الغربي، وخاصة الأسلحة المتطورة مثل الطائرات بدون طيار، والمدفعية دقيقة التوجيه، والصواريخ بعيدة المدى.
تراهن أوكرانيا على أن هذه التقنية الغربية المتفوقة يمكن أن تعوض عن النقص في القوة البشرية، وأنها قادرة على استهداف خطوط الإمداد الروسية وإضعاف قدراتها الهجومية.
لكن أي تراجع في هذا الدعم، سواء لأسباب سياسية داخلية أو بسبب تغير الإدارة الأمريكية، يمكن أن يؤدي إلى انهيار الدفاعات الأوكرانية.
بناء على ما سبق، يمكن القول أنه -في الوقت الحالي على الأقل- لا يوجد طرف قريب من تحقيق نصر عسكري حاسم. الوضع أقرب إلى حالة استنزاف متبادل. روسيا تملك ميزة كمية (قوة بشرية وصناعية)، بينما تملك أوكرانيا ميزة نوعية (تكنولوجيا غربية ومساعدات خارجية).
النتيجة النهائية للحرب ستعتمد على قدرة أوكرانيا على الحفاظ على تدفق المساعدات العسكرية الغربية، وقدرتها على تجنيد وتدريب المزيد من الجنود. في المقابل، ستتوقف قدرة روسيا على مواصلة القتال على صمود اقتصادها في مواجهة العقوبات وعلى استمرارية التعبئة العسكرية.
هل ستتحول الحرب إلى صراع طويل الأمد لا غالب فيه ولا مغلوب؟ أم أن أحد الطرفين سيجد متغيرًا دراماتيكيًا يغير المعادلة؟
وهل يمكن تثبيت الوضع الحالي كحل وسط؟
إنّ تثبيت وضع الجبهة الحالي كحل وسط هو فكرة مطروحة في بعض الأوساط الدبلوماسية، لكنها تواجه تحديات كبيرة تجعل قبولها من الطرفين أمرًا صعبًا للغاية. لتوضيح الأمر أكثر، لنطرح عددا من الأسئلة الفرعية:
هل يمكن أصلا اعتبار تثبيت وضع الجبهة حلاً وسطًا؟
نظريًا، قد يبدو تثبيت الجبهة حلاً وسطًا مؤقتًا أو مرحليًا. فمن الناحية العملية، هذا يعني وقف القتال على الخطوط الحالية، مما يجنّب مزيدًا من الخسائر البشرية والاقتصادية. ومع ذلك، هناك عدة عوائق أساسية:
الخطوط الحمراء: كما ذكرنا سابقاً، هذا الحل يتعارض مباشرة مع الخطوط الحمراء لكلا الطرفين. روسيا تريد السيطرة الكاملة على المناطق الأربع التي أعلنت ضمها، بينما أوكرانيا تريد استعادة كل شبر من أراضيها.
حل دائم أم مؤقت؟ هل سيكون هذا الحل بمثابة “هدنة” تسمح لكل طرف بإعادة تنظيم صفوفه استعدادًا للجولة القادمة، أم أنه سيشكل أساسًا لمفاوضات سلام طويلة الأمد؟ أي غموض في هذا الصدد سيجعل الطرفين يرفضان الفكرة.
الاعتراف الدولي: تثبيت الجبهة يعني ضمنيًا الاعتراف الروسي بالسيطرة الأوكرانية على أجزاء من المقاطعات التي أعلنت روسيا ضمها، وهو ما يتناقض مع دستورها. في المقابل، يعني هذا الحل قبول أوكرانيا بخسارة أجزاء من أراضيها دون استعادتها، وهو ما يتعارض مع دستورها أيضاً.
هل تقبل روسيا بالاكتفاء بما تحتله حاليًا من المناطق الأربعة؟
من المرجح أن ترفض روسيا هذا الخيار. السبب هو أن روسيا لم تسيطر بشكل كامل على أي من المقاطعات الأربع (دونيتسك، لوهانسك، زاباروجيا، خيرسون). على سبيل المثال، لا تزال أوكرانيا تسيطر على أجزاء كبيرة من مقاطعة زاباروجيا ومدينة خيرسون عاصمة المقاطعة.
الهدف الروسي: الهدف المعلن لروسيا هو “تحرير” هذه المقاطعات بشكل كامل. التوقف عند الخطوط الحالية سيعتبر فشلاً في تحقيق هذا الهدف المعلن، مما قد يؤثر على مصداقية بوتين في الداخل.
الوضع العسكري: روسيا ستعتبر أن لديها فرصة لتحقيق مكاسب عسكرية إضافية، خاصة في دونيتسك، ولهذا قد تفضل مواصلة الهجوم بدلاً من تثبيت الجبهة في وضع غير مواتٍ لها.
هل يمكن أن تتنازل أوكرانيا عنها مقابل الحفاظ على ما تبقى؟
من غير المرجح أن تقبل أوكرانيا هذا الخيار، وذلك لعدة أسباب:
الخطر الوجودي: ترى أوكرانيا أن التنازل عن الأراضي هو خيانة لـ “دماء” جنودها، ويعني قبولاً بمبدأ أن القوة العسكرية يمكنها تغيير الحدود، مما يهدد وجودها كدولة ذات سيادة.
الدعم الغربي: يعتمد الدعم الغربي لأوكرانيا على مبدأ “الدفاع عن السيادة ووحدة الأراضي”. أي تنازل أوكراني عن الأراضي سيضعف هذا الأساس، وقد يقلل من حجم المساعدات العسكرية والاقتصادية.
الضغط الداخلي: سياسياً، لن يقبل المجتمع الأوكراني أو المؤسسات السياسية بأي تنازلات إقليمية، خاصة بعد أن أظهرت القوات الأوكرانية قدرة على الصمود واستعادة بعض الأراضي.
هل يمكن الحديث عن تبادل للأراضي داخل هذه المناطق؟
فكرة تبادل الأراضي داخل هذه المناطق (مثل تنازل أوكرانيا عن أجزاء من الشرق مقابل استعادة أراضٍ في الجنوب) هي فكرة معقدة للغاية وغير واقعية حاليًا:
عدم التكافؤ: من الصعب تحديد “قيمة” متساوية للأراضي. فمساحة معينة في منطقة زراعية قد لا تعادل أهمية ميناء بحري أو مركز صناعي.
التركيبة السكانية: أي تبادل للأراضي سيتجاهل مصير السكان القاطنين في تلك المناطق، وقد يؤدي إلى عمليات تهجير قسرية.
القبول السياسي: لا توجد إرادة سياسية حالياً لدى أي من الطرفين للتفاوض حول “تبادل الأراضي”. كل طرف يرى أن الأراضي التي يسيطر عليها هي جزء من سيادته وكيانه.
باختصار، بينما يبدو تثبيت وضع الجبهة حالياً حلاً عملياً لتجنب المزيد من القتال، فإنه لا يرضي المطالب الأساسية لأي من الطرفين. المطالب المتناقضة لروسيا (السيطرة الكاملة على المقاطعات) وأوكرانيا (استعادة جميع الأراضي) تجعل هذا الخيار غير قابل للتطبيق كحل دائم في الوقت الحالي.
لكن، ماذا لو حدث انقلاب على بوتين أو زيلينسكي؟!
بكل تأكيد، يُعد سيناريو “الانقلاب” في أحد البلدين من أكثر المتغيرات الدراماتيكية التي يمكن أن تُغير مسار الحرب ونتائجها بشكل جذري. ومع ذلك، فإن احتمالات وقوعه تختلف بشكل كبير بين روسيا وأوكرانيا، وتعتمد على عوامل داخلية وخارجية معقدة.
تأثير الانقلاب على مسار الحرب
إذا حدث انقلاب في أي من البلدين، فإن هذا لن يغير فقط واقع الحرب على الأرض، بل سيُعيد صياغة المشهد الجيوسياسي بأكمله.
انقلاب في روسيا: هذا هو السيناريو الأكثر تأثيرًا. إذا أطاح انقلاب عسكري أو سياسي ببوتين، فإن مصير الحرب سيصبح مجهولًا تمامًا.
سيناريو إنهاء الحرب: قد يأتي النظام الجديد مع وعود بإنهاء الحرب وسحب القوات من أوكرانيا، سعيًا لرفع العقوبات وتحسين العلاقات مع الغرب. هذا السيناريو قد يؤدي إلى سلام سريع، لكنه يثير تساؤلات حول ما إذا كان النظام الجديد سيُقدم تنازلات بشأن الأراضي التي ضُمّت.
سيناريو التصعيد: في المقابل، قد يأتي نظام أكثر تشدداً وتطرفاً، خاصة إذا كان من خلفية عسكرية أو قومية متطرفة، ويرى أن انسحاب بوتين كان ضعفاً. هذا قد يؤدي إلى تصعيد أكبر للحرب، وربما استخدام أسلحة أكثر خطورة، في محاولة لتحقيق “نصر” لم يتمكن بوتين من تحقيقه.
انقلاب في أوكرانيا: سيناريو الانقلاب في أوكرانيا سيكون له تأثير كبير أيضاً.
سيناريو التفاوض: قد يأتي نظام جديد يرى أن استمرار الحرب استنزاف للموارد البشرية والوطنية، ويقرر فتح قنوات تفاوضية مع روسيا على أساس شروط مختلفة، قد تتضمن تنازلات إقليمية أو سياسية.
سيناريو الفوضى: الانقلاب قد يؤدي إلى فوضى داخلية وصراعات على السلطة، مما يُضعف الجبهة الأوكرانية ويُعطي روسيا ميزة عسكرية كبيرة. قد تستغل روسيا هذه الفوضى لتحقيق مكاسب عسكرية سريعة.
احتمالات وقوعه نظريًا
تختلف احتمالات وقوع الانقلاب في كل بلد بناءً على بنيته السياسية والعسكرية، وإن كانت تشترك في كونها ضعيفة.
احتمالات الانقلاب في روسيا:
السيطرة على السلطة: يُسيطر بوتين بقبضة حديدية على جميع مؤسسات الدولة، وخاصة الأجهزة الأمنية والجيش. أي معارضة داخلية أو انشقاق يتم قمعه بسرعة.
تاريخ فاغنر: محاولة التمرد الفاشلة التي قام بها يفغيني بريغوزين في عام 2023 أظهرت هشاشة محتملة للنظام، لكنها أظهرت أيضًا قدرة بوتين على احتواء الأزمة وتصفية قادتها لاحقاً.
الاحتمالات النظرية: قد يأتي الانقلاب في روسيا من مصدرين رئيسيين:

1. الجيش: إذا ارتفعت أعداد القتلى بشكل كبير، وتزايد سخط الضباط من أداء القيادة العسكرية العليا، فقد يسعى بعض القادة العسكريين إلى الإطاحة بالنظام.
2. الدائرة المقربة من بوتين: قد يتآمر بعض الأفراد الأقوياء في دائرة بوتين المقربة، من “الأوليغارش” أو مسؤولي الاستخبارات، خوفاً من انهيار الاقتصاد أو تفاقم العزلة الدولية.
احتمالات الانقلاب في أوكرانيا:
الدعم الشعبي: يبدو أن الرئيس فولوديمير زيلينسكي يتمتع بدعم شعبي كبير نتيجة دوره في قيادة الدفاع عن البلاد. أي محاولة انقلابية ستُعتبر خيانة للبلاد في حالة حرب.
المؤسسات الديمقراطية: على الرغم من إعلان الأحكام العرفية، إلا أن أوكرانيا لديها مؤسسات ديمقراطية قوية نسبيًا. أي محاولة لقلب النظام ستواجه مقاومة من المجتمع المدني والقوى السياسية المختلفة.
الاعتماد على الغرب: تعتمد أوكرانيا بشكل كامل على الدعم الغربي، وأي انقلاب قد يؤدي إلى وقف هذا الدعم، ما يُنهك البلاد بشكل كامل.
وعليه، فبينما يُشكل الانقلاب في كل من روسيا وأوكرانيا سيناريو دراماتيكيًا يمكن أن يغير مسار الحرب بشكل كامل، إلا أن احتمالات وقوعه تظل منخفضة نظريًا. فأنظمة الحكم في كلا البلدين، رغم اختلافهما، تملك آليات قمع وسيطرة قوية تمنع أي تحركات معارضة كبيرة. ومع ذلك، فإن التاريخ يُظهر أن انهيار الأنظمة الاستبدادية أو التي تمر بحالة حرب يمكن أن يكون مفاجئاً، وأن أي تغيير دراماتيكي على الأرض أو في معنويات الجبهة الداخلية قد يكون الشرارة التي تُشعل مثل هذا الحدث.

إذا، هل يمكن الحديث عن حل وسط بين المطالب الروسية والأوكرانية المتناقضة؟
في ظل ما سبق، وما طرحناه حول الخطوط الحمراء والواقع العسكري على الجبهة، والتي توحي جميعها بأن الحل الوسط يبدو شبه مستحيل في ظل المواقف الحالية، هل يمكن تخيل بعض السيناريوهات التي قد تمثل أرضية للتفاوض؟ يمكن الحديث هنا عما يلي:
منطقة رمادية بين المطالب:
الحياد الأوكراني: قد تقبل أوكرانيا بوضع حيادي رسمي، شريطة الحصول على ضمانات أمنية قوية وموثوقة من دول كبرى (مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا) لردع أي عدوان مستقبلي. هذا الحل يرضي المطلب الروسي بعدم انضمام أوكرانيا للناتو، وفي الوقت نفسه يطمئن أوكرانيا.
قضية الأراضي: هذا هو أصعب جزء. الحل الوسط قد يتضمن:
الاعتراف بالوضع الحالي: قد يقبل الجانب الأوكراني بوقف إطلاق النار على الخطوط الحالية (دون الاعتراف بالسيادة الروسية على الأراضي المحتلة).
محادثات لاحقة: يتم تأجيل النقاش حول مصير الأراضي المحتلة إلى مفاوضات مستقبلية طويلة الأمد، وهو ما قد يسمح لكلا الطرفين بحفظ ماء الوجه.
استفتاءات تحت إشراف دولي: قد يوافق الطرفان على إجراء استفتاءات في بعض المناطق المتنازع عليها، بشرط أن تكون تحت إشراف دولي صارم.
التنازلات المتبادلة:
روسيا: قد توافق روسيا على الانسحاب من بعض الأراضي التي احتلتها مؤخراً مقابل الاعتراف بسيادتها على شبه جزيرة القرم.
أوكرانيا: قد تتنازل أوكرانيا عن فكرة استعادة كل شبر من أراضيها بالقوة، وتكتفي باستعادة المناطق الأساسية، مقابل ضمانات أمنية ومالية لإعادة الإعمار.
الحلول “غير التقليدية” لإنهاء الصراع: خيارات من خارج الصندوق
في ظل الجمود الحالي، حيث تتصادم الخطوط الحمراء للطرفين، ويتعذر الحديث عن حلول وسط، يصبح من الضروري البدء في التفكير “النظري” في حلول تتجاوز المفاوضات التقليدية. هذه الحلول، رغم صعوبتها، وعدم توافر شروط تحقيقها حاليا، قد تكون المخرج الوحيد من الأزمة -في مرحلة ما- عندما تقتنع الأطراف الأربعة باستحالة تحقيق روسيا أو الغرب لانتصار حاسم فيها، مع عدم تحمل تبعات بقاء الصراع مفتوحا. وسنكتفي هنا بإيراد أبرز ثلاثة حلول “نظرية” غير مطروحة حاليا، تحتاج طبعا لمزيد من البحث والتدقيق:
نموذج “مقايضة الأراضي بالأمن”
هذا النموذج يقوم على صفقة استراتيجية كبرى، يتم فيها تبادل التنازلات الجغرافية مقابل ضمانات أمنية حاسمة.
آلية العمل:
التنازل الأوكراني: تقبل أوكرانيا بالتنازل عن الأراضي التي تحتلها روسيا حاليًا، وربما الاعتراف بوضع خاص لها، دون الاعتراف بالسيادة الروسية الكاملة.
المكاسب الأوكرانية: في المقابل، تحصل أوكرانيا على ضمانات أمنية لا لبس فيها من الولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبرى، توازي في قوتها المادة الخامسة من حلف الناتو. هذه الضمانات يجب أن تكون مكتوبة ومفصلة، وتضمن الدفاع عن أوكرانيا في حال أي عدوان مستقبلي.
التنازل الروسي: تسحب روسيا قواتها بالكامل من باقي الأراضي الأوكرانية، وتلتزم بعدم شن أي هجمات مستقبلية، وتوافق على دفع تعويضات ضخمة لإعادة إعمار أوكرانيا.
المكاسب الروسية: تحصل روسيا على ما كانت تطالب به من الناحية الجغرافية، وهو “الاعتراف” بوضع المناطق التي سيطرت عليها فعليًا، دون الحاجة للاستمرار في حرب استنزاف مكلفة.
التحديات:
المبدأ الأوكراني: أوكرانيا ترفض مبدأ التنازل عن الأراضي بشكل قاطع، وتعتبره مكافأة للعدوان. أي زعيم أوكراني يوافق على هذا الحل سيواجه معارضة شعبية وسياسية شديدة.
ثقة معدومة: هل يمكن لأوكرانيا أن تثق بضمانات روسية بعدم العدوان في المستقبل؟ وهل يمكن لروسيا أن تثق بعدم سعي أوكرانيا لاستعادة الأراضي المفقودة في المستقبل؟
المقايضة غير المتساوية: هل يمكن تقييم “الأمن” بما يعادل “الأرض”؟ هذا النوع من المقايضة يصعب تحقيقه في الواقع.
نموذج “الحياد المضمون”
هذا الحل يركز على تحويل أوكرانيا إلى دولة حيادية، لكن مع وجود آليات دولية لضمان هذا الحياد.
آلية العمل:
الحياد: تتخلى أوكرانيا عن طموحاتها في الانضمام إلى الناتو، وتلتزم بحيادها الدائم، على غرار نموذج النمسا أو سويسرا.
الضمانات الدولية: في المقابل، تحصل أوكرانيا على ضمانات أمنية قوية من عدة دول كبرى، مثل الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وربما الصين. هذه الدول تتعهد بالدفاع عن أوكرانيا في حال تعرضها لأي عدوان، مما يجعلها قادرة على حماية نفسها دون أن تكون جزءًا من حلف عسكري.
التعويضات: تلتزم روسيا بالانسحاب الكامل من جميع الأراضي الأوكرانية، بما فيها القرم، وتدفع تعويضات لإعادة الإعمار.
التحديات:
ثمن الانسحاب الروسي: هل ستوافق روسيا على الانسحاب من القرم مقابل حياد أوكرانيا؟ هذا يبدو مستبعدًا للغاية، فموسكو ترى في القرم جزءًا لا يتجزأ من سيادتها.
فاعلية الضمانات: ما هي فاعلية هذه الضمانات إذا لم تكن من خلال حلف عسكري رسمي مثل الناتو؟ يمكن أن يُنظر إليها على أنها أقل إلزامًا، وقد لا تكون كافية لردع روسيا.
نموذج “الكونفدرالية المحدودة”
هذا الحل هو الأكثر جذرية، ويقوم على إنشاء اتحاد سياسي بين أوكرانيا وروسيا، مع الحفاظ على درجة من السيادة لكل طرف.
آلية العمل:
الكيان السياسي: يتم تشكيل كيان كونفدرالي يجمع أوكرانيا وروسيا، مع الاحتفاظ بحكومات مستقلة، لكن مع وجود هيئة عليا مشتركة (مثلاً مجلس للرئيسين) تتولى التنسيق في القضايا الأمنية والدفاعية.
الاعتراف المتبادل: تعترف روسيا بالسيادة الأوكرانية، وتنسحب من الأراضي التي احتلتها، مقابل اعتراف أوكرانيا بـ”العلاقات الخاصة” مع روسيا، وربما الاعتراف بوضع خاص للمناطق التي تسكنها أغلبية روسية.
المكاسب: تحصل روسيا على نفوذ استراتيجي في أوكرانيا، وتضمن عدم انضمامها إلى الناتو. وتحتفظ أوكرانيا بسيادتها، وتستعيد أراضيها، وتضمن السلام.
التحديات:
انعدام الثقة: الثقة بين الطرفين معدومة تمامًا. فكرة أن يتعاونا في إطار كونفدرالي تبدو غير قابلة للتصديق.
السيادة: أي تنازل عن جزء من السيادة الوطنية، مهما كان صغيرًا، سيكون مرفوضًا من قبل الشعب الأوكراني الذي يحارب من أجل استقلال بلاده.
النموذج التاريخي: هذا النموذج فشل في كثير من الأحيان، فهو غالبًا ما يؤدي إلى صراعات داخلية أو تفكك.
تظل هذه الحلول غير التقليدية أفكارًا نظرية في معظمها، لكنها تظهر أن الخيارات المتاحة أكثر تعقيدًا من مجرد الفوز أو الخسارة العسكرية. ففي النهاية، أي حل سيكون نتاجًا للتطورات على الأرض، والقدرة على التفكير خارج الإطار التقليدي.

لقاء ترامب وبوتين في ألاسكا؟
ختاما، وفي ظل هذا المشهد بالغ التعقيد، يأتي اجتماع الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين في ألاسكا، والذي أحيط بهالة درامية كبيرة (كما هي الأحداث التي يشارك فيها الرئيس ترامب)، فهل لهذه الدراما ما يبررها!!
يمكن القول أن هذا اللقاء، الذي لم يكشف عن أبرز نتائجه، يمكن أن يحمل نقاطًا إيجابية وسلبية محتملة، لكن في ظل تخوف الشريكين الاوكراني والأوروبي من احتمال عقد “صفقة بين ترامب وبوتين”، يقدم فيها ترامب الذي لا يهتم كثيرا للرمزية الوطنية والتاريخية، بمقدار اهتمامه “باللقطة” التي تظهره أمام جمهوره بالأساس، قائدا عالميا قادرا على اجتراح حلول، حتى لو كانت غير قابلة للتنفيذ! احتمال عمل الولايات المتحدة منفردة بعيدا عن حلفائها الأوروبيين وأهل الشأن الأوكرانيين، يرسل إشارات مقلقة ليس فقط إلى هذه الأطراف، بل ولباقي حلفاء الولايات المتحدة في العالم، والأهم، لحملة إرث “القوة العظمى العالمية” في داخل الولايات المتحدة نفسها، من المختلفين جذريا مع النظرة الانعزالية لأصحاب توجه “أمريكا أولا” والمنضوين تحت راية حركة “لنجعل أمريكا عظيمة مجددا” (MAGA).
إن التناقض المركزي الحالي بين مقاربة ترامب ومقاربة حلفائه الأوروبيين، تطرح أسئلة “وجودية” على مستقبل الاتحاد الأوروبي بطريقة غير مسبوقة، وتحتم على الأوروبيين، عاجلا أم آجلا، تسريع مسلسل “تسليح” القارة، أو على الأقل، الدول الكبرى فيها (ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، إسبانيا، وإيطاليا)، وربما في مرحلة معينة، التفاوض مع روسيا بمعزل عن الولايات المتحدة، بعد أن أصبح الناتو بشكل متزايد هيكلا فارغا بسبب عقيدة ترامب وفريقه.
يبقى الأكيد، أننا لن نشهد نهاية قريبة للصراع، الذي تنبع صعوبته من كونه صراعا “صفريا” لا يمكن لأحد أن يتحمل خسارته، وعليه، لا يجوز لأحد أن ينتصر فيه. والأيام وحدها كفيلة بالإجابة عن مدى اتجاه هذا الصراع نحو الانفراج أم نحو مزيد من التأزم، على أرضية اهتمام الولايات المتحدة بفتح جبهة جديدة مع الصين في جنوب شرق أسيا، وهو ما يحتم على الصين وروسيا شكلا أوضح من التحالف، وهو ما لم نتطرق له هنا. وإن غدا لناظره قريب.