حين احتضن المغرب الثورة الجزائرية: دعم حاسم بلا حدود

King Mohammed 5 in UN

شكّل اندلاع الثورة الجزائرية في الأول من نوفمبر 1954 لحظة فارقة في تاريخ الكفاح المغاربي ضد الاستعمار الفرنسي، وقد اضطلعت المملكة المغربية، بقيادة الملك محمد الخامس، بدور محوري في دعم هذه الثورة على المستويات السياسية واللوجستية والدبلوماسية. فبعد نيل المغرب استقلاله سنة 1956، تحوّلت أراضيه إلى عمق استراتيجي لثوار جبهة التحرير الوطني، حيث احتضنت المملكة مكاتب الجبهة، وقدّمت التسهيلات لعبور السلاح والمقاتلين، فضلًا عن الدعم المالي والإعلامي والسياسي في المحافل الدولية. كما وفّر المغرب للثوار فضاءً آمنًا للتنسيق والتخطيط، وأسهم في تعبئة الرأي العام العربي والإفريقي والدولي لصالح القضية الجزائرية. ورغم تعرّضه لضغوط فرنسية متكرّرة، لم يتراجع المغرب عن موقفه الثابت في دعم الثورة. وحتى أشدّ الخصوم وأكثرهم عداءً لا يستطيعون إنكار الدعم الكبير الذي قدّمته المملكة المغربية للثورة الجزائرية، وهو ما يعكس التزامًا صادقًا بمبدإ التحرر الوطني ووحدة المصير المغاربي.

وقد تجلّى هذا الدعم المغربي الرسمي بشكل أوضح من خلال الموقف العلني للملك محمد الخامس، الذي عبّر صراحة عن تضامنه مع الشعب الجزائري في خطابه التاريخي بمدينة وجدة بتاريخ 15 سبتمبر 1956، حيث دعا إلى حل عادل وسلمي للقضية الجزائرية في إطار وحدة المغرب العربي. وقد شكّل هذا الموقف تحديًا مباشرًا للسياسة الاستعمارية الفرنسية، ما دفعها إلى الرد بعدوانية من خلال اختطاف قادة الثورة الجزائرية في 23 أكتوبر 1956 أثناء وجودهم في ضيافة المغرب. وقد أدان الملك محمد الخامس هذا الفعل، واصفًا إياه بـ”القرصنة”، واعتبره طعنة في شرفه الوطني، مؤكدًا رفضه لأي تسويات تمس بالقضية الجزائرية. بل إنه رفض صفقة نفطية فرنسية سنة 1957، كانت تتضمّن استثمارات داخل الجزائر المحتلة. كما عبّرت مختلف مكوّنات المجتمع المغربي، من صحف وعمّال وطلبة، عن دعمها الواسع للثورة الجزائرية، مؤكّدة أن استقلال الجزائر قضية تحرّر عادلة تستوجب المساندة الكاملة من الشعوب والدول المجاورة..

الدور الاستراتيجي للملك محمد الخامس في دعم الثورة الجزائرية.

يشير هذا الدور إلى جملة من السياسات والمواقف التي اتخذها العاهل المغربي، والتي تجاوزت حدود التضامن السياسي أو العاطفي لتشكّل دعمًا فعليًا ومتكاملًا على المستويين الميداني والدبلوماسي. فقد أدرك الملك، في وقت مبكّر، أن استقلال الجزائر لا يمثل قضية معزولة، بل هو امتداد طبيعي لمشروع تحرّر شامل في شمال إفريقيا، ولذلك جعل من المغرب قاعدة خلفية للثورة الجزائرية؛ ففتح حدوده أمام المجاهدين، ووفّر لهم ملاذًا آمنًا للتنظيم والتدريب، وساهم في تأمين السلاح والعتاد رغم التهديدات الفرنسية. كما اتخذ مواقف دبلوماسية جريئة، أبرزها استقباله العلني لقادة جبهة التحرير ورفضه الضغوط والصفقات الفرنسية التي سعت إلى ثنيه عن دعم الثورة. ويُظهر هذا التوجه أن دعم الملك محمد الخامس لم يكن استجابة ظرفية، بل جزءًا من رؤية استراتيجية تروم إنهاء الاستعمار وبناء وحدة مغاربية مستقلة.

تجليات الدعم المغربي: الأبعاد السياسية والميدانية

لم يقتصر الدعم المغربي للثورة الجزائرية على التصريحات الرمزية أو المواقف الدبلوماسية، فحسب ، بل اتخذ طابعًا عمليًا وشاملًا شمل البعدين السياسي والميداني. فقد عبّرت المملكة، بقيادة الملك محمد الخامس، عن انخراط فعلي في معركة التحرر الوطني، من خلال احتضان قادة الثورة، وتوفير الدعم اللوجستي، وفتح  الحدود الشرقية امام الثوار، وتقديم الرعاية الصحية لهم ، وفتح الجبهات الدبلوماسية في وجه الاستعمار الفرنسي، بالإضافة الى تقديم الدعم الشعبي والإعلامي

 الاحتضان السياسي والدبلوماسي لقادة الثورة الجزائرية

تميّزت مواقف الملك محمد الخامس باحتضان سياسي واضح ومباشر لقادة جبهة التحرير الوطني، تجلّى من خلال الاستقبالات الرسمية والعلنية التي عكست عمق العلاقات الثنائية بين المغرب والثورة الجزائرية. ففي 6 فبراير 1957، استقبل الملك في العاصمة الإسبانية مدريد وفدًا من الجبهة، من بينهم المناضل أحمد توفيق المدني، حيث عبّر عن دعمه الكامل للثورة، مؤكّدًا أن موقفه يتجاوز التأييد العادي إلى التزام مجاهد ملتزم. وصرّح الملك بأن “سلاح الثورة يتجوّل في المغرب بحرية”، وهو تصريح يحمل دلالات سياسية وعسكرية بالغة الأهمية. واستمر التواصل المباشر بين قيادات الثورة والمسؤولين المغاربة، رغم محاولات الأجهزة الاستعمارية زرع الفتنة وبثّ الشائعات للنيل من متانة العلاقة بين الطرفين.

الدعم العسكري واللوجستي

قدّم المغرب دعمًا عسكريًا ولوجستيًا بالغ الأهمية للثورة الجزائرية، لم يقتصر على فتح الحدود فحسب، بل شمل توفير أراضٍ للتدريب واستقبال الأسلحة والذخائر، وتأمين عبور المتطوعين والمقاتلين. ومن أبرز مظاهر هذا الدعم، حادثة السفينة المحمّلة بالسلاح التي رست بميناء طنجة، حيث تولّى الملك شخصيًا تمويل الشحنة، قائلًا: «لا أرد لك رجاءً… وسأكمل له الثمن المطلوب، اشتراكًا مني خاصًا في الجهاد»، وهو ما يعكس انخراطه العميق والرمزي في مساندة الثورة.

فتح الحدود وتوفير القواعد الخلفية

بتوجيه مباشر من الملك محمد الخامس، فتحت القوات المغربية الحدود الشرقية أمام المجاهدين، وتحولت مدن مثل وجدة وبركان وتازة إلى مراكز رئيسية للتدريب ومرور الأسلحة. كما وُضع نحو 500 متطوّع من مدينة مراكش تحت تصرّف جيش التحرير الوطني الجزائري. وسُهّل عبور المتطوّعين الأجانب والمعدّات العسكرية عبر التراب المغربي، مما أسهم في تعزيز قدرات الثورة وفاعليتها الميدانية.

الابتكار في الدعم اللوجستي وتحدّي الحصار الفرنسي

في ظل تشديد الحصار الفرنسي، وبدعم مغربي فعّال، طوّرت الثورة الجزائرية شبكات تهريب مبتكرة للأسلحة عبر الأراضي المغربية، باستخدام وسائل غير تقليدية كصناديق الفاكهة، الأواني الفخارية، وخزّانات وقود السيارات. كما ساهمت السلطات المغربية في تقديم الرعاية الصحية للجرحى داخل مستشفياتها، ما وفّر منفذًا حيويًا لعلاج المصابين القادمين من جبهات القتال.

المواجهة الدبلوماسية مع فرنسا

دخل المغرب في مواجهات دبلوماسية مباشرة مع فرنسا بسبب دعمه للثورة، حيث قدّمت باريس شكاوى رسمية إلى مجلس الأمن، وزرعت ألغامًا وأسلاكًا شائكة على الحدود، غير أن المغرب لم يتراجع عن موقفه. كما استجابت السلطات المغربية لمطالب قادة الثورة بإغلاق القنصليات الفرنسية في وجدة وبوعرفة، بسبب المضايقات الممنهجة التي تعرّض لها الجزائريون.

التضامن الشعبي والإعلامي

امتد الدعم ليشمل مكونات المجتمع المدني المغربي، حيث عبّرت الصحافة الوطنية عن تضامنها الكامل مع الثورة، ورفضت الحملات الفرنسية لتشويه صورة الجبهة. كما ساهم اتحاد الطلبة المغاربة في احتضان القضية الجزائرية، وشاركوا إلى جانب نظرائهم الجزائريين والتونسيين في مؤتمر طلابي انعقد بالمغرب، طالب فيه المشاركون الحكومتين المغربية والتونسية بتكثيف دعمهما للثورة.

خلاصة القول لقد شكّل دعم الملك محمد الخامس للثورة الجزائرية نموذجًا فريدًا في التضامن المغاربي، لم يكن مجرّد موقف سياسي أو رمزي، بل التزامًا عمليًا وميدانيًا ساهم بفعالية في تعزيز قدرات جبهة التحرير الوطني، وإضعاف الموقف الفرنسي على المستويين العسكري والدولي. وتدل مواقف الملك في مختلف المحطات على رؤية استراتيجية تعتبر استقلال الجزائر حلقة أساسية في استكمال مشروع تحرر واستقلال دول المغرب العربي.

حول المؤلف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *