سيدي بوعبيد الشرقي: مهندس المجتمع، رائد التصوف، والقطب الذي شكل تاريخ المغرب في عصره.

bouabid charki2

في تاريخ المغرب الممتد عبر قرون كثيرة، لعبت الزوايا الصوفية أدوارا غاية في الأهمية، على المستويات كافة: الروحية الدينية، السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وغيرها. هذه الأدوار منحت لهذه المؤسسات الروحية مكانة لا تزال راسخة في وجدان المغاربة، حتى من غير المرتبطين بالأجواء الصوفية، وهو ما يعبرون عنه من خلال احتفالاتهم السنوية بمواسم دينية خاصة بهذا الولي الصالح او ذاك. واحد من أهم هؤلاء الأولياء الصالحين، الذين لا تزال ذكراهم حاضرة في أذهان الناس رغم مرور قرابة خمسة قرون على وجودهم في الدنيا، هو سيدي بوعبيد الشرقي، واسمه الكامل أبو عبيدة محمد القاسم الشرقي العمري، هو مؤسس الطريقة الشرقاوية في المغرب. ولد بين عامي 926هـ و 928هـ في منطقة تبعد حوالي 3 كيلومترات عن قصبة تادلة، وتوفي في أبي الجعد سنة 1010هـ.

ضريح سيدي بوعبيد الشرقي

سيرته ومكانته:

  • نشأته وتعليمه:  نشأ سيدي بوعبيد الشرقي في بيت اشتهر بالصلاح والتقوى، فوالده هو الشيخ أبو القاسم بن محمد الزعري. تلقى تعليمه في زاوية الصومعة، حيث درس علوم التفسير، والقراءات، والحديث، والفقه، والتصوف. كما أخذ الطريقة الصوفية عن والده وشيوخ آخرين منهم سيدي عبد العزيز التباع، وسيدي محمد الغزواني، وسيدي عمر القصطالي.
  • تأسيس الزاوية الشرقاوية: انتقل سيدي بوعبيد الشرقي إلى مكان يسمى “أبي الجعد”، وحفر بئراً وبنى مسجداً ومدرسة. أصبحت هذه الزاوية مركزاً للإشعاع الديني والعلمي، واستقطبت طلاب العلم والمريدين من جميع الجهات. وقد تخرج منها علماء بارزون.
  • مكانته ودوره: يُعد سيدي بوعبيد الشرقي من أعلام التصوف في المغرب، وقد ساهمت الزاوية التي أسسها في نشر العلوم الدينية والثقافية. كما كان لها دور كبير في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، مثل تأمين الطرق وحماية القوافل، والتدخل لتهدئة الثورات.

تستمر مكانة سيدي بوعبيد الشرقي إلى اليوم من خلال “موسم سيدي بوعبيد الشرقي” الذي يقام سنوياً. هذا الموسم ليس مجرد احتفال ديني، بل هو فضاء للتصوف وإحياء للتراث الروحي والثقافي. كما أنه يساهم في تنشيط السياحة الدينية ودعم الاقتصاد المحلي.

أهم إنجازاته..

يُعرف سيدي بوعبيد الشرقي بأنه مؤسس الزاوية الشرقاوية، وهي أهم إنجازاته وأكثرها تأثيراً. وقد كانت هذه الزاوية بمنزلة مشروع حضاري متكامل، تجاوز دوره الجانب الديني ليشمل جوانب أخرى اجتماعية، علمية، واقتصادية. ويمكن إجمال أهم إنجازات سيدي بوعبيد الشرقي في التالي:

تأسيس الزاوية الشرقاوية: قام سيدي بوعبيد الشرقي بإنشاء هذه الزاوية التي أصبحت مركزاً دينياً وعلمياً بارزاً في المغرب. كانت الزاوية بمثابة مدرسة لتحفيظ القرآن ونشر العلوم الدينية، مما جذب إليها طلاب العلم من مختلف المناطق.

بناء مدينة أبي الجعد: لم تكن الزاوية مجرد مكان للعبادة، بل كانت النواة التي نشأت حولها مدينة أبي الجعد. فقد ساهمت الزاوية وأحفاد سيدي بوعبيد الشرقي في تنمية المنطقة عمرانيًا واقتصاديًا، من خلال بناء المساجد والآبار وتطوير نظام الري، مما حول المنطقة إلى مركز إشعاع حضاري وتجاري هام. لقد كانت الزاوية الشرقاوية التي أسسها في القرن السادس عشر هي النواة التي نشأت حولها المدينة. فقد تحولت الزاوية بمرور الوقت من مجرد مركز روحي وعلمي إلى قوة عمرانية، مما أدى إلى تشكّل مدينة متكاملة حولها.

نفوذه الاجتماعي والسياسي: لعبت الزاوية الشرقاوية دورًا هامًا في حل النزاعات بين القبائل وتعزيز التكافل الاجتماعي. كما كان لها دور سياسي في تأمين الطرق وحماية القوافل التجارية، والتدخل لتهدئة الثورات المناوئة للسلطة، مما جعلها فاعلاً رئيسيًا في المنطقة.

تُعدّ هذه الإنجازات الأسباب الرئيسية التي عززت مكانة سيدي بوعبيد الشرقي وحافظت على إرثه حتى اليوم من خلال الموسم السنوي الذي يُقام تكريماً له، والذي يجمع بين الجوانب الدينية والثقافية والاقتصادية.

أهميته في تاريخ المغرب..

كانت أهمية سيدي بوعبيد الشرقي في تاريخ المغرب خلال الحقبة التي عاش فيها (القرن 16م) تتجاوز كونه شيخًا صوفيًا، لتشمل أدوارًا محورية في بناء المجتمع، وتأمين الاستقرار، وتأسيس نموذج حضاري فريد. ويمكن إجمال أهم هذه الأدوار فيما يلي:

 دوره الديني والروحي

كان سيدي بوعبيد الشرقي من أعلام التصوف البارزين في المغرب، وهو مؤسس الطريقة الشرقاوية التي كانت امتدادًا للمدرسة الجزولية الشاذلية. من خلال زاويته، نشر العلم والفقه والتصوف المعتدل، وخرّج العديد من العلماء. لعب هذا الدور الديني دورًا محوريًا في إحياء القيم الروحية وتعميق الهوية الإسلامية في المنطقة.

مدينة أبي الجعد

دوره في تأسيس مدينة أبي الجعد

يُعدّ سيدي بوعبيد الشرقي مؤسس مدينة أبي الجعد، حيث كانت زاويته هي النواة التي نشأت حولها المدينة. فقد قام بتحويل منطقة قاحلة إلى مركز حضاري مزدهر، بفضل جهوده في بناء المؤسسات التعليمية والمساجد، وتطوير البنية التحتية مثل الآبار وأنظمة الري. هذا الإنجاز يعكس قدرة الزوايا الصوفية في المغرب على أن تكون محركات للتنمية العمرانية والاجتماعية.

 دوره السياسي والاجتماعي

اكتسبت الزاوية الشرقاوية نفوذًا كبيرًا لم يقتصر على الجانب الديني فقط، بل امتد إلى الجانبين السياسي والاجتماعي. وقد تجلى ذلك في عدة جوانب:

  • حل النزاعات: كانت الزاوية مركزًا للتحكيم بين القبائل المتنازعة، مما ساهم في تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة.
  • دعم المخزن: كانت الزاوية تقوم بدور الوسيط بين القبائل والسلطة المركزية (المخزن)، حيث كانت تتدخل لتهدئة الثورات وتساهم في جمع الضرائب والزكاة. كما كانت تحظى بعناية خاصة من سلاطين الدولة العلوية في فترات لاحقة، مما يؤكد أهميتها السياسية.
  • الدور الاقتصادي: ساهمت الزاوية في تأمين الطرق التجارية وحماية القوافل (ما كان يُعرف بـ “الزطاطة”)، مما عزز من مكانتها كفاعل اقتصادي محوري في المنطقة وساهم في تنشيط الحركة التجارية بين مدن مثل مراكش وفاس.

باختصار، يمكن القول إن سيدي بوعبيد الشرقي لم يكن شخصية دينية فردية، بل كان رمزًا لمؤسسة صوفية لعبت أدوارًا متعددة الأوجه في تاريخ المغرب، وأسست لنفسها مكانة دينية واجتماعية وسياسية جعلت من زاويته قوة حضارية مؤثرة.

حول الكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *