شنقريحة- تبون: صراع القمة في النظام الجزائري يتجه نحو نهايته

يشهد النظام الجزائري واحدة من أخطر مراحله الانتقالية منذ الاستقلال، حيث تتصاعد حدة الصراع بين أجنحته العسكرية والمدنية بشكل غير مسبوق. فإقالة الوزير الأول نذير العرباوي في 24 يونيو 2023، والتي تلتها تقارير عن وضعه قيد الإقامة الجبرية، لم تكن مجرد تغيير حكومي روتيني، بل كانت بمثابة الطلقة الأولى في معركة الإطاحة التي تخوضها الأجنحة العسكرية ضد الرئيس عبد المجيد تبون.
الانهيار الاقتصادي: الكارثة التي تبحث عن كبش فداء
تُشكل الأزمة الاقتصادية الخانقة الخلفية الحقيقية لهذا الصراع. فبحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، يعاني الاقتصاد الجزائري من عجز في الميزانية تجاوز 52% في عام 2024، بقيمة 62 مليار دولار، وذلك رغم عوائد الغاز المرتفعة بسبب الحرب في أوكرانيا. ولكن الريع النفطي لم يعد كافياً لسد الفجوة، حيث تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن احتياطيات النقد الأجنبي التي كانت تقدر بـ 194 مليار دولار في 2014، تراجعت إلى أقل من 60 مليار دولار اليوم.
هذا الانهيار الاقتصادي، المقترن بـ معدل بطالة يقترب من 15% (ويصل إلى 30% بين الشباب)، هو الوقود الذي يغذي الغضب الشعبي. لقد أصبح النظام في حاجة ماسة إلى “كبش فداء” يُحمل فشله، وكان العرباوي، بصفته رئيس الحكومة، الضحية الأولى في مسرحية إلهاء الرأي العام عن الفشل الهيكلي لنظام حكمه العسكري.

ثلاثية الحكم الهرمة: وجوه الأزمة الهيكلية
معضلة النظام الجزائري الحقيقية تكمن في تقادم وهشاشة أركان حكمه الثلاثة، التي تجاوزت عمرها السياسي وفقدت شرعيتها:
الرئيس تبون (80 عاماً): يمثل حالة من الضعف والهوان غير المسبوقة. لقد أصبحت خطاباته، التي تزخر بالأرقام الوهمية والادعاءات غير الدقيقة (مثل الادعاء ببناء مليون سكن في عام واحد)، مادة للسخرية الوطنية. يكاد يكون إجماعاً وطنياً أنه يفتقد لأدنى المؤهلات لقيادة دولة بحجم الجزائر، وهو مجرد واجهة مدنية باهتة لا تملك أي قرار مستقل.
الجنرال سعيد شنقريحة (81 عاماً): رئيس أركان الجيش، وهو الرجل القوي الفعلي في البلاد. تجتمع حول شخصيته كل عناصر الكراهية الشعبية؛ ففضلاً عن اتهامات تاريخية له بـ الإبادة خلال الحرب الأهلية في التسعينيات، تُوثق تقارير منظمات مثل “شفنغن ليك“ و “مناهضة الفساد“ ثروته الطائلة وعمليات الفساد الهائلة التي يُشرف عليها هو وعائلته، مما يجعله الشخصية الأكثر كرها داخل المؤسسة العسكرية ذاتها.
الجنرال محمد مدين (المعروف بتوفيق): (86 عاما): على الرغم من تقاعده، يبقى “الرب” الخفي. أما الجنرال حسان (78 عاما)، مدير المخابرات الداخلية، وأحد رجالات توفيق المقربين، فهو مجرد ظل وامتداد لشنقريحة، لا يشكل قطباً مستقلاً، بل أداة في يد القيادة العسكرية.
سيناريو الإطاحة: التمهيد لـ “شغور المنصب“

كل الإشارات تشير إلى أن آلة الإطاحة بتبون قد بدأت تدور بلا توقف:
التأزيم المتعمد مع فرنسا: بدلاً من تهدئة الأجواء، يتم تصعيد الخلاف لخلق أزمة خارجية تُحاسب فيها الرئاسة على “فشلها”.
حملة التشويه الممنهجة: يُطلق العنان لوسائل الإعلام والصحفيين المقربين من المخابرات (مثال: السعيد بن سديرة) لمهاجمة تبون ومستشاريه وحكومته بأقصى درجات العداء، في عملية “شيطنة” ممنهجة تمهد الرأي العام لقبول إقالته.
الاستهداف الديني والاجتماعي: يتم تحميل تبون مسؤولية الموافقة على بنود من اتفاقية سيداو، لتقديمه كخائن للقيم الإسلامية والاجتماعية، وهي تهمة خطيرة في البيئة المحافظة.
الغياب الصحي “المدبر“: الغياب الطويل للرئيس تبون والشائعات “المسربة” عن رحلته العلاجية إلى ألمانيا هي تمهيد مثالي لإعلان الجنرال شنقريحة أن منصب الرئاسة قد شغر بسبب “ظروف صحية طارئة”، مما يفتح الباب لنهاية “آمنة” لتبون قد تنتهي بالإقامة الجبرية أو المنفى، إن قبل بالصفقة.
من سيفوز في صراع البقاء؟

لكن هذا السيناريو ليس بهذه البساطة. فشنقريحة نفسه ليس في مأمن. اعتماده داخل الجيش يقتصر على حفنة من الجنرالات لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين، بينما يضطرم تحت السطح غضب عارم من سياساته وتورط عائلته في الفساد. إن تصور قيام جنرالات آخرين بالتنسيق مع الرئيس تبون، أو حتى ضباط من داخل المؤسسة العسكرية، بـ “التغدي” بشنقريحة قبل أن “يتعشى بهم“ هو سيناريو واقعي للغاية، وتوجد عدة مؤشرات قوية على تململ داخلي ضده.
الخلاصة: نهاية نظام بلا رثاء
بغض النظر عن من سيبقى ومن سيسقط، فإن كل المؤشرات تؤكد أن أيام هذا النظام، برموزه الحالية، أصبحت معدودة. سواء جاءت نهايته من خلال انقلاب داخلي “ناعم” أو من خلال انفجار شعبي جديد (خاصة مع توقع هبوط أسعار النفط إلى أقل من 50 دولاراً للبرميل العام القادم)، فإن التغيير قادم لا محالة. لقد فقد النظام شرعيته وكفاءته واتصاله بالواقع. والشيء الوحيد المؤكد هو أن الشعب الجزائري، الذي عانى لعقود من قبضة العسكر، لن يذرف دمعة واحدة على رحيل أي من هؤلاء، بل سيعتبر سقوطهم الخطوة الأولى نحو تحرير البلاد من نظام حكم عسكري أثبت فشله الذريع، منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا.