في ذكرى استرجاع وادي الذهب.. حقائق على هامش الجدل المفتعل حول مغربية الصحراء

لطالما اعتبر تاريخ الدول وجغرافيتها، نعمة ونقمة في آن واحد. فنعمة التاريخ للدول العظيمة أنه يساهم في ترسب “جينات الحضارة” في “كروموسومات” شعبها، ويجعلهم مؤهلين لمعاودة الصعود الحضاري إثر كل عملية تقهقر، كما هو المعتاد في الحضارات عبر العالم. أما نقمته (أي التاريخ) فهو يتمثل في صبغ ذاكرة أعدائها ومناوئيها باللون الأسود، ويجعلها هدفا لسهام الحقد وسمومه. أما نعمة الجغرافيا المميزة لبلد ما، فهي إتاحة المجال أمامها للعديد من الفرص السانحة للنمو، إذا احسنت استغلالها طبعا؛ بالمقابل، فنقمتها أنها تجعلها هدفا دائما للمطامع والاحتلال ومحاولات السيطرة، من منافسيها واعدائها. والمملكة المغربية، كواحدة من أعرق الحضارات العالمية وأميزها تاريخا وجغرافيا، لطالما كانت هدفا لحقد منافسيها من جيران الشمال الأوروبي، ومحاولات حصارها الدائم لقطع تواصلها مع محيطها الإقليمي شرقا وجنوبا، على أمل تقزيم دورها الذي طالما لعبته في محيطها الإقليمي والقاري، بل وفي عمق القارة الأوروبية (داخل الأندلس) على مدى قرون مضت.
نسوق هذه المقدمة كمدخل للحديث عن مناسبة احتفال المغاربة باستعادتهم إقليمي وادي الذهب وأوسرد عام 1979، عبر بيعة دينية وسياسية قدمها شيوخ ووجهاء وعلماء ونخب هذه المنطقة إلى السلطان المغربي الراحل الملك الحسن الثاني رحمه الله. هذا الاسترجاع بهذه الطريقة (البيعة)، يحفزنا على استحضار بعض الحقائق الرئيسة، التي يحاول الإعلام الدعائي الجزائري والمرتبطين به عربيا ودوليا أن يطمسوها، في إطار نزاعهم المفتعل مع المغرب حول وحدته الترابية وعمق انتماء أقاليمه الجنوبية إلى وطنها الأم.

أولى ملاحظاتنا تتعلق بمفهوم “الشرعية السياسية”، كما هو راسخ في حضارتنا العربية الإسلامية. فأساس مشروعية أي حكم إسلاميا (بعيدا عن شروط قيامه بواجب العباد والبلاد) هو ببساطة: رضى المحكومين. هذا الأساس الأبرز ينطبق على القبائل الصغيرة التي يتوارث شيوخها أمورها، كما ينطبق على الدول الكبيرة التي تمتد جغرافيتها أو تتقلص؛ سواء كانت هذه الدول “خلافة” تاريخية أو “جمهورية” حديثة. هذا الرضى والذي يتسبب غيابه لدى غالبية معتبرة من السكان في تمردهم وشق عصى طاعتهم على من يتولى إدارة شؤونهم، توافق المسلمون على أن يأخذ شكل “البيعة” والتي هي في عمقها عقد مكتمل الأركان بين طرفين: ولي الأمر الذي يتعهد بحفظ البلاد والعباد ورعاية مصالحهم، والرعايا الذين يتعهدون بالطاعة والانخراط فيما يحقق الصالح العام. ولأننا نعيش حقبة “التغول الغربي”، الذي بدأ مع الحركات الاستعمارية على امتداد تاريخ بلادنا، ولم ينته -رسميا- إلا باستقلال هذه الدول بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بعقود، فإن القانون الدولي المنظم لمسألة السيادة لم يعترف إلا بمفاهيم السيادة “الأوروبية” دون أدنى التفات لمفاهيم السيادة في الحضارات الأخرى شرقا وغربا. فلا يعقل بداهة أن يحمل مفهوم السيادة نفس المعنى في جمهوريات أمريكا اللاتينية؛ جمهوريات الاتحاد السوفييت السابق؛ الحضارة الإسلامية؛ الحضارات الشرقية في اليابان والهند والصين؛ بل وفي كتالونيا والباسك في المملكة الإسبانية؛ فكل حضارة منها فهمت السيادة ومارستها عبر تاريخها بطرق مختلفة.

وعليه، فعندما تحكم محكمة العدل الدولية بأن روابط البيعة بين شيوخ قبائل الصحراء المغربية وسلاطين المغرب (منذ الأدارسة في القرن الثامن الميلادي) هي ثابتة وموثقة، لن نكون بحاجة إلى استدراكهم بأن هذه البيعة ليست من ضمن مظاهر وتجليات “السيادة القانونية” بالمفهوم الغربي، لأنها راسخة في تراثنا وتاريخنا وحضارتنا كعرب ومسلمين. وما جدال إعلام جنرالات الجزائر في صدق السيادة المغربية على أقاليمه الجنوبية استنادا لروابط البيعة، إلا مخالفة صريحة لهذا المفهوم الراسخ، اللهم إلا إذا لم يكونوا في عداد المنتمين إلى هذه الأمة!
ثاني الحقائق التي ينبغي إلقاء الضوء عليها، تتعلق بحدود ومدى بيعة قبائل الأقاليم الجنوبية. فرب قائل يحاجج بأن نفس حكم المحكمة أعطى وجاهة لمطالبة موريتانيا بها، على اعتبار وجود “روابط قانونية” تربطهما. هنا نقول، أن السيادة المعتبرة المبنية على بيعة شرعية لم تكن يوما متحققة في الحالة الموريتانية، ببساطة لأنها لم تمتلك (قبل استقلالها) دولة مركزية يمكنها أن تحقق التزاماتها تجاه سكان الصحراء المغربية، حماية وخدمات، وإنما إمارات محلية لا ترقى إلى مصاف الدول، كإمارات الترارزة والبراكنة وأدرار. وعليه، تنحصر روابط البيعة بين جميع هذه القبائل، بما فيها قبائل الصحراء الشرقية في تندوف وبشار، وبعض قبائل موريتانيا الحالية، بل والعديد من مدن ومناطق الغرب الجزائري كتلمسان ووهران وغيرهما، مع سلاطين المغرب حصريا على امتداد تاريخهم كله.
ثالث الحقائق، الثابتة تاريخيا، ان المغرب لم يتأخر يوما عن نجدة ونصرة ومد يد العون للمحتاجين من دول الجوار. حدث هذا مع ممالك الطوائف في الأندلس عندما هبت الدولة المركزية المغربية (المرابطية) للقيام بدورها الديني والسياسي، وأسهمت في إدامة الحكم الإسلامي هناك قرابة أربعة قرون. وتكرر الأمر مع الثورة الجزائرية منذ أن وطأت أقدام أول جندي فرنسي فيها عام 1830، إلى أن نالت استقلالها عام 1962. كما أن التاريخ القديم والحديث يشهد بحجم المساهمة المغربية في تحرير فلسطين (معركة حطين والمساعدات الموجهة للناصر صلاح الدين)، وفي الدفاع عنها خلال حرب 1973 وما قبلها، وصولا إلى يومنا هذا. مع تاريخ كهذا، هل يعقل أن يمتنع المغاربة وسلاطينهم عن نجدة إخوانهم من قبائل المغرب الجنوبية، الذين يرتبطون بالعرش عبر بيعة شرعية، توجب على ولي أمرهم الحماية وحفظ الأنفس والثمرات؟! هل يعقل لدولة امتدت يوما ما من حدود مصر الغربية إلى نهر السنغال، أن تنكص عن رعاية وحماية مواطنيها ومناطقها وأقاليمها الجنوبية؟ هذا لعمري هو المستحيل بعينه.

رابع الحقائق أن المملكة المغربية، وفي مواجهة جميع الحملات الاستعمارية التي استهدفتها، قامت بدفع ضريبة العرق والدم للحفاظ على أقاليمها الجنوبية من المطامع الأوروبية التي بدأت مبكرا، وحتى قبل سقوط غرناطة نهاية القرن الخامس عشر. مقاومة اعتمدت السياسة والدبلوماسية حينا، والقوة والعسكرية أحيانا. وفي جميع هذه المعارك، سلما وحربا، اعترف المستعمر الأوروبي بحجية وشرعية جلوس ممثل السلطان على الطرف الآخر من الطاولة أو الجبهة، كونه صاحب الملكية الشرعية لهذه الأرض، والمكلف بحمايتها والدفاع عنها. لم يحاجج أوروبي واحد يوما في مشروعية دفاع الجيش المغربي عن هذه الأقاليم، أو مشروعية تمثيلها خلال أي محادثات سلام، وقاموا -عبر تاريخهم- بعقد عشرات المعاهدات الاقتصادية والسياسية مع المملكة الشريفة، وهو الدليل الدامغ على سيادة المملكة المغربية على هذه المناطق، بما يدحض بالملموس الأدبيات الغربية المتعلقة بمفاهيم السيادة، عندما يتعلق الامر بحضارات وشعوب أخرى، ومنها المغرب. هذه الحجية، هي التي بررت للعاهل المغربي الملك محمد السادس إطلاق مقولته الشهيرة: “المغرب في صحرائه، والصحراء في مغربها، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها”.

كخلاصة، منذ استرداد طرفاية عام 1958، وسيدي إفني عام 1969، والساقية الحمراء عام 1975، ووادي الذهب 1979، إلى الآن، مارس المغرب جميع أشكال النضال المشروعة لاستكمال وحدته الترابية، من الحروب العسكرية النظامية، إلى حروب العصابات ومقاومة جيش التحرير، إلى المفاوضات والمعاهدات السلمية. وعليه، ليس هناك أدنى مبرر لاستمرار وجود هذا الملف داخل أروقة اللجنة الرابعة لتصفية الاستعمار في الأمم المتحدة. فالمغرب الذي وضع القضية أمام أنظار هذه اللجنة من أجل تحريرها من مستعمرها الإسباني، حقق الهدف واستكمله في مثل هذه الأيام قبل 46 عاما، وما استمرار وجودها هناك إلا امتداد للابتزاز الذي مورس على المملكة الشريفة لعقود، وهو ما يفترض أن زمنه انتهى إلى غير رجعة!!