ممر بن غوريون: مشروع تجاري أم ورقة جيوسياسية لإعادة رسم خرائط التجارة العالمية؟

المقدمة
برز ممر بن غوريون خلال السنوات الأخيرة باعتباره أحد أكثر المشاريع المثيرة للجدل في الشرق الأوسط، لما يحمله من أبعاد اقتصادية واستراتيجية تتجاوز حدود كونه مجرد طريق تجاري. يقوم المشروع على إنشاء مسار بري–بحري يربط الموانئ الإسرائيلية على البحر الأبيض المتوسط بدول الخليج العربي وصولاً إلى الهند وآسيا، في محاولة لتقديم بديل استراتيجي عن قناة السويس المصرية التي تمثل منذ القرن التاسع عشر الشريان الحيوي للتجارة بين الشرق والغرب.
يحمل الممر اسم “دافيد بن غوريون”، مؤسس الكيان الإسرائيلي، وهو ما يعكس منذ البداية رمزية سياسية تتجاوز البعد الاقتصادي، حيث يشكل المشروع في جوهره محاولة لتكريس موقع” إسرائيل” كحلقة وصل مركزية في شبكات التجارة العالمية الجديدة. ومن ثَمّ، فإن دراسة هذا الممر تفرض نفسها ليس فقط باعتباره قضية اقتصادية، بل كملف استراتيجي يثير أسئلة جوهرية حول موازين القوى، وأمن المنطقة، وإعادة رسم طرق النقل والتجارة في القرن الحادي والعشرين.
تستعرض هذه الدراسة الممر من منظور متعدد الأبعاد، يجمع بين التحليل التاريخي والجغرافي والسياسي، مع إبراز أهميته في الأمن القومي الإسرائيلي وأبعاده الاقتصادية، والتجارية والساسية والاستراتيجية واهم التحديات التي سيةجهها هذا المشروع.

اولا: الخلفية التاريخية والجيوسياسية للمشروع
يشكل ممر بن غوريون جزءًا من تاريخ الدولة الإسرائيلية منذ إعلان قيامها عام 1948. خلال حرب الاستقلال، كان الممر محورًا حيويًا لتحريك القوات والإمدادات بين المدن الساحلية والمناطق الجنوبية والشرقية، وقد ساهم في تأمين خطوط الدفاع الإسرائيلية في مواجهة الهجمات من الأطراف العربية.
فكرة إنشاء ممر يربط المتوسط بالخليج ليست جديدة، فقد طُرحت خلال سبعينيات القرن الماضي ضمن خطط إسرائيلية للبحث عن بدائل استراتيجية تقلص من الاعتماد على مصر وقناة السويس. غير أنّ السياقات الدولية آنذاك لم تكن مهيأة لإنجاحها. ومع مطلع القرن الحادي والعشرين، أعيد طرحها على خلفية التحولات الاقتصادية الكبرى وصعود آسيا كمركز ثقل تجاري عالمي.
ان اختيار اسم “بن غوريون” للمشروع ليس اعتباطياً؛ فهو يعكس رمزية الهوية الصهيونية ورغبة إسرائيل في ترسيخ حضورها كفاعل محوري في الشرق الأوسط. كما يأتي المشروع في سياق دولي مضطرب يفسر عودته بقوة إلى واجهة النقاش الاستراتيجي:
- الحرب في أوكرانيا واضطرابات سلاسل الإمداد
منذ اندلاع الحرب الروسية–الأوكرانية سنة 2022، تعرضت شبكات التجارة العالمية لهزات كبيرة. تعطلت طرق الشحن عبر البحر الأسود، وارتفعت تكاليف النقل والطاقة، كما زادت المخاطر الجيوسياسية المرتبطة بالاعتماد على ممرات محدودة. هذا الوضع جعل القوى الكبرى تبحث عن طرق بديلة لتأمين تدفق السلع والموارد. في هذا السياق، برزت فكرة ممر بن غوريون كخيار إضافي يقلل من المخاطر المرتبطة بالحرب، خصوصًا أنه يقدم مسارًا بريًا أقصر نسبيًا لنقل البضائع من الخليج وآسيا نحو المتوسط وأوروبا.
- التنافس الأمريكي–الصيني
يشكل التنافس بين الولايات المتحدة والصين أبرز ملامح النظام الدولي الجديد. فالصين طرحت منذ 2013 مبادرة الحزام والطريق لربط آسيا بأوروبا وإفريقيا عبر ممرات برية وبحرية ضخمة، وهو ما تعتبره واشنطن تهديدًا لنفوذها. من هنا، تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى دعم مشاريع بديلة لمواجهة النفوذ الصيني، مثل الممر الهندي–الأوروبي (India-Middle East-Europe Corridor). ويُنظر إلى ممر بن غوريون باعتباره جزءًا من هذه البدائل المحتملة، إذ يمنح إسرائيل موقعًا استراتيجياً في قلب المنافسة العالمية على طرق التجارة.
- تداعيات جائحة كورونا
أظهرت جائحة كوفيد–19 هشاشة النظام التجاري العالمي. فقد أدى إغلاق الموانئ الصينية وتعطل النقل البحري إلى رفع أسعار الشحن بشكل غير مسبوق وخلق ندرة في السلع الأساسية في أوروبا وأمريكا. كما كشفت الأزمة أن الاعتماد المفرط على مسارات محددة مثل قناة السويس أو مضيق هرمز يجعل الاقتصاد العالمي عرضة للشلل عند أي أزمة. هذا الدرس جعل القوى الاقتصادية تبحث عن تنويع طرق التجارة وتوزيع المخاطر، وهو ما أعطى دفعة قوية لمشاريع ممرات بديلة مثل ممر بن غوريون.
كل هذه العوامل مجتمعة جعلت البحث عن طرق بديلة للتجارة ضرورة استراتيجية، وهو ما أعطى مشروع ممر بن غوريون زخماً غير مسبوق.

ثانيا : الأبعاد السياسية والاستراتيجية والاقتصادية
1ـ البعد السياسي والاستراتيجي
يضع ممر بن غوريون نفسه في قلب الحسابات الجيوسياسية للمنطقة، إذ يتجاوز طابعه الاقتصادي البحت ليغدو ورقة استراتيجية في صراع النفوذ. فالمشروع بالنسبة لإسرائيل ليس مجرد ممر تجاري، بل جزء من منظومة متكاملة لتكريس حضورها كقوة إقليمية فاعلة.
- “إسرائيل”
تنظر إلى الممر كأداة متعددة الأبعاد؛ فهو يمنحها قدرة أكبر على التحرك العسكري السريع وتأمين حدودها، كما يفتح أمامها منفذاً لتعزيز اندماجها في الاقتصاد العالمي عبر ربطها مباشرة بالأسواق الخليجية والآسيوية. وإلى جانب ذلك، يشكل الممر رافعة للسيطرة الإقليمية، إذ يعزز من قدرتها على التحكم في حركة السكان والبنى التحتية الحيوية، خاصة في المناطق القريبة من الضفة الغربية.
- الخليج
يرى فيه فرصة لتنويع الشركاء وتقليل الارتهان لممرات بحرية مهددة بالصراعات مثل مضيق هرمز وباب المندب، بما يمنحه هامشاً أكبر للمناورة الاستراتيجية في مواجهة التوترات الإقليمية.

- مصر
تبدو الأكثر تضرراً، إذ يشكل الممر تهديداً مباشراً لقناة السويس، شريانها الاقتصادي الحيوي الذي يدرّ أكثر من 10% من الدخل القومي. وأي نجاح لهذا البديل يعني تقليص مكانة مصر الاستراتيجية في معادلات التجارة العالمية.
- المغرب العربي وإفريقيا
التأثيرات غير مباشرة لكنها ملموسة؛ فالمنافسة على ممرات التجارة قد تعيد رسم أدوار المنطقة. ويبرز المغرب، على وجه الخصوص، الذي يسعى لترسيخ موقعه كبوابة أطلسية لإفريقيا وأوروبا، أمام تحدي مضاعفة حضوره في خريطة التنافس على طرق الربط الدولي.
2ـ البعد الاقتصادي والتجاري
الممر يتكون من شبكة سكك حديدية وطرق سريعة وبنى تحتية لوجستية متطورة، تنطلق من ميناء حيفا على المتوسط مروراً بالأردن، وصولاً إلى الموانئ الخليجية، حيث يتم شحن البضائع نحو الهند وآسيا.
ثالثا : الأهداف الاقتصادية المعلنة لممر بن غوريون
- تقليص زمن الشحن بين الهند وأوروبا بنحو 40%
يعد هذا الهدف محورياً في الطموح الاقتصادي للممر، إذ يسعى المشروع إلى توفير مسار بري وبحري مختصر يختصر المسافات مقارنة بالمسارات التقليدية عبر قناة السويس أو رأس الرجاء الصالح. هذا الاختصار في الزمن يعزز القدرة التنافسية لشركات الشحن ويخفض مخاطر التأخير، ما يجعل الممر خياراً جذاباً لتدفق البضائع بين آسيا وأوروبا. - خفض التكلفة مقارنة بمسار قناة السويس
إلى جانب الزمن، يشكل الجانب المالي أحد الأهداف الأساسية. من المتوقع أن يقلل الممر من تكاليف النقل من خلال توفير مسار أقل ازدحاماً وأكثر كفاءة، بما يسهم في جذب الشركات العالمية وتقليل الاعتماد على قناة السويس كمحور وحيد لشحن البضائع، وهو ما يعيد رسم خرائط التجارة الإقليمية ويزيد من القدرة التفاوضية لإسرائيل وشركائها. - تعزيز التعاون التجاري بين إسرائيل ودول الخليج بعد اتفاقيات التطبيع
يمثل الممر أداة استراتيجية لدعم التقارب الاقتصادي بين إسرائيل ودول الخليج، خاصة في أعقاب اتفاقيات التطبيع. من خلال توفير بنية تحتية تجارية مباشرة، يتيح المشروع فرصاً للاستثمار المشترك، وتوسيع التبادل التجاري، وربط الأسواق الإقليمية بالدول الآسيوية والأوروبية. هذا البعد الاقتصادي يرتبط بشكل مباشر بالبعد السياسي، إذ يعزز مكانة إسرائيل ويمنح دول الخليج مرونة أكبر في إدارة علاقاتها الاقتصادية والاستراتيجية.
رابعا : العوائق الاقتصادية والبنيوية للممر
- الكلفة الباهظة لإنشاء وصيانة البنية التحتية
يشكل الاستثمار الأولي لإنشاء الممر وصيانته المستمرة أحد أبرز التحديات الاقتصادية، إذ يتطلب المشروع تمويلاً ضخماً لتشييد الموانئ والسكك الحديدية والطرق وربطها بالبنية التحتية القائمة. هذا العبء المالي قد يحد من سرعة التنفيذ أو يفرض اعتماد الشركاء على التمويل الخارجي، ما قد يعقد القدرة على إدارة المشروع بكفاءة ويزيد من المخاطر المالية على المدى الطويل.
- القدرة التنافسية مع قناة السويس
على الرغم من المزايا الزمنية المحتملة للممر، تظل قناة السويس منافساً قوياً نظراً لاستقرارها التشغيلي وخبرتها اللوجستية العريقة على مدار عقود، فضلاً عن اعتماد جزء كبير من حركة التجارة العالمية عليها. هذا يجعل جذب حركة الشحن الدولية تحدياً كبيراً، إذ يحتاج الممر إلى تقديم حوافز اقتصادية وبنية تحتية متطورة لضمان تنافسه الفعلي.
- مدى استدامة الطلب في ظل المنافسة مع المشاريع الصينية مثل “الحزام والطريق“
تتنافس إسرائيل عبر هذا الممر مع مشاريع صينية ضخمة مثل مبادرة “الحزام والطريق”، التي توفر شبكات نقل متكاملة وممولة دولياً. هذا يضع السؤال حول استدامة الطلب على الممر على المدى الطويل، إذ يعتمد نجاح المشروع على قدرتها على جذب تدفقات تجارية مستمرة، ومواجهة المنافسة في بيئة إقليمية ودولية تتسم بالمرونة العالية والتحولات الاقتصادية السريعة.

خامسا: : خريطة تاريخية للممر
تعتبر دراسة الممر من خلال البعد الجغرافي والتاريخي أداة ضرورية لفهم أهميته الاستراتيجية والسياسية. يمكن توضيح خطوط الممر الرئيسة على خريطة تفصيلية تبين المدن والقرى المحيطة به، والمناطق التي شهدت تحركات عسكرية خلال الحروب الإسرائيلية السابقة. كما يمكن تحديد أهم نقاط السيطرة والتحصينات العسكرية التي شكلت مفاصل القوة على طول الممر، بما في ذلك المواقع التي كانت محورًا للمعارك أو نقاط التفتيش الحاسمة. هذه الخريطة لا تقتصر على الجانب العسكري فحسب، بل توضح أيضًا البنية التحتية للنقل والاتصال، مثل الطرق البرية، خطوط السكك الحديدية، والموانئ القريبة، التي تعزز من قيمة الممر الاقتصادي والاستراتيجي. عبر هذا التصور البصري، يصبح من الممكن رصد تطور السيطرة الإقليمية على الممر عبر العقود، وفهم كيفية تأثير النزاعات على ديناميات التجارة والأمن في المنطقة. كما تساعد هذه الخريطة الباحثين وصناع القرار على تقدير المخاطر المستقبلية، ووضع سيناريوهات لإدارة الممر ضمن سياسات الأمن الإقليمي والدولي
سادسا التوازنات الدولية والتنافس الجيو–اقتصادي
يشكل مشروع الممر نقطة ارتكاز جديدة في المشهد الجيو–اقتصادي العالمي، إذ يتجاوز بعده التجاري ليتحول إلى ساحة للتنافس بين القوى الكبرى. فالولايات المتحدة تدعمه بقوة باعتباره بديلاً عمليًا لمبادرة “الحزام والطريق” الصينية، ووسيلة لإعادة صياغة خريطة التجارة العالمية بما يخدم مصالحها الإستراتيجية ويعزز تحالفاتها مع الهند وإسرائيل ودول الخليج. في المقابل، ترى الصين في هذا الممر تهديدًا مباشرًا لممراتها البحرية والبرية التي استثمرت فيها عبر آسيا وإفريقيا، وهو ما يجعلها تسعى إلى تطوير بدائل تكتيكية لتقليص تأثيره. أما روسيا، فتتعامل مع المشروع بريبة وحذر، إذ يضعف من قدرتها على التحكم بمصادر الطاقة وخطوط إمدادها نحو أوروبا، ما يقلص من وزنها في معادلة الأمن الطاقي. بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فإن الممر يمثل فرصة لتقليل الاعتماد على المسارات التقليدية المهددة بالأزمات، وتعزيز أمنه الطاقي والتجاري في سياق دولي يتسم بالتقلبات. بهذا المعنى، يصبح الممر أكثر من مجرد خط للنقل، بل أداة لإعادة تشكيل ميزان القوى الدولي، ومؤشراً على احتدام التنافس بين مراكز القوة الاقتصادية والجيوسياسية.
سابعا: التحديات والرهانات المستقبلية
رغم ما يحمله ممر بن غوريون من وعود اقتصادية واستراتيجية، إلا أن مساره يظل محفوفًا بتعقيدات عديدة قد تعرقل فعاليته وتحد من طموحاته.
1 – التحديات الأمنية:
يبقى البعد الأمني أحد أبرز المخاطر التي تتهدد المشروع، إذ إن المنطقة الممتدة على طول الممر تقع في قلب نزاعات إقليمية مفتوحة، فضلاً عن نشاط جماعات مسلحة عابرة للحدود قادرة على تعطيل حركة النقل أو استهداف البنية التحتية الحيوية. وهو ما يفرض على إسرائيل وحلفائها استثمارًا متواصلًا في المنظومات الدفاعية والتنسيق الاستخباراتي لضمان حماية الممر.
2 – الضغوط السياسية:
يُنظر إلى الممر أيضًا كملف سياسي حساس، حيث ترى أطراف إقليمية أن سيطرة إسرائيل عليه تمثل ورقة ضغط تُستخدم في مفاوضات السلام وفي رسم توازنات جديدة بالمنطقة. كما أن نجاح المشروع يرتبط بشكل مباشر بمستقبل مسار التطبيع واستقرار العلاقات الإسرائيلية – الخليجية، وهو ما يجعل استدامته مرهونة بتحولات السياسة الإقليمية والتوافقات الدولية الكبرى.
3 – التحديات الاقتصادية والتنموية:
على الصعيد الاقتصادي، يتطلب الممر استثمارات ضخمة للحفاظ على جاذبيته التجارية وضمان قدرته التنافسية أمام مشاريع بديلة في المنطقة، مثل ممرات الصين أو المبادرات الخليجية. كما أن استمرارية نشاطه تستلزم إدارة فعّالة للبنية التحتية وتحديثًا مستمرًا للقدرات اللوجستية، بما يوازن بين متطلبات الحركة التجارية والأبعاد العسكرية.
الخاتمة
يبقى مستقبل ممر بن غوريون مرتبطًا بقدرته على إثبات نفسه كخيار استراتيجي مستدام يجمع بين الأمن والتنمية، ويشكل بديلًا موثوقًا ضمن شبكة الممرات العالمية. ويعتمد نجاح المشروع على تأمين بيئة إقليمية مستقرة، وضمان استمرارية تدفقات الاستثمار، وتطوير آليات شراكة قادرة على امتصاص الصدمات السياسية والأمنية. كما يعكس الممر صراعًا أوسع لإعادة رسم الجغرافيا الاقتصادية والإقليمية، ويبرز بشكل واضح الطموحات العدوانية لإسرائيل في تعزيز سيطرتها الإقليمية، وتوسيع نفوذها العسكري والاقتصادي، وفرض وجودها كقوة لا يمكن تجاوزها. في المقابل، يثير المشروع تساؤلات حول مستقبل الأمن الإقليمي ومكانة الدول العربية، خصوصًا مصر، التي قد تتضرر مصالحها الحيوية نتيجة هذا التوسع. يبقى السؤال الجوهري: هل سينجح الممر في فرض نفسه كبديل استراتيجي لقناة السويس، أم سيظل أداة في يد إسرائيل لتحقيق أطماعها الإقليمية؟ إن الإجابة تعتمد على قدرة الأطراف المعنية على تحويل المشروع من رؤية جيوسياسية طموحة إلى واقع اقتصادي واستراتيجي ملموس، مع مواجهة التحديات التي تفرضها الأجندة الإسرائيلية الطموحة..