إمارة الجهاد البحري في سلا: ملاحم القراصنة التي أرعبت أوروبا

Sale pirates

تمثل “إمارة أبي رقراق” أو “إمارة سلا” شبه المستقلة، التي تمركزت حول مدينتي سلا والرباط (سلا الجديدة) عند مصب نهر أبي رقراق، إحدى أكثر الحقب غرابة وتفرداً في التاريخ المغربي. لم تكن هذه الإمارة مجرد كيان سياسي، بل كانت مركز قوة بحرية فرضت هيبتها على الملاحة في حوض المتوسط والمحيط الأطلسي، مانحة المغرب قوة ردع استثنائية في القرن السابع عشر.

النشأة والتأسيس: جذور الأندلس في الضفة الأطلسية

تعود جذور هذه الإمارة البحرية إلى مطلع القرن السابع عشر، تحديداً بعد مرسوم الطرد الذي أصدره الملك الإسباني فيليب الثالث ضد الموريسكيين (المسلمين الذين أُجبروا على التنصّر في الأندلس ثم طُردوا لاحقاً) بين عامي 1609 و1614. وفدت أعداد كبيرة منهم إلى المغرب، واستقر جزء منهم، خاصة لاجئو منطقة هورناتشوس الإسبانية، الذين عُرفوا باسم الحرناشيين في القصبة وسلا الجديدة  (الرباط الحالية)

هؤلاء الموريسكيون، المدفوعون بالثأر والخبرة البحرية، وجدوا في الموقع الاستراتيجي لمصب نهر أبي رقراق نقطة انطلاق مثالية للجهاد البحري ضد القوى الأوروبية. بدأ النشاط كقرصنة أو “جهاد بحري” يدفع 10% من مداخيله للسلطان السعدي. إلا أن نقطة التحول جاءت عام 1627، عندما أعلن الحرناشيون التمرد على السلطة المركزية وطردوا ممثل السلطان السعدي، معلنين قيام كيانهم المستقل الذي عُرف بإمارة سلا البحرية أو إمارة الجهاد البحري في بورقراق.

تم تأسيس نظام سياسي فريد يحكم هذه “الإمارة” عبر مجلس يُسمى “الديوان، وكان يتألف من 12 إلى 16 وجيهاً يتم انتخابهم سنوياً في شهر مايو. يختار الديوان حاكماً أو “الأميرال الكبير. هذا التداول للسلطة، وتقسيم الديوان بين مكونات سلا القديمة والقصبة وسلا الجديدة، منح هذا الكيان صفة “الدولة المدينة” المستقلة نوعاً ما، وهو ما يمثل مصدر فرادتها كنموذج إداري مغربي يتسم باللامركزية والاستقلال النسبي في ظل دولة ملكية تقليدية.

عهد الازدهار والهيبة: القادة والأعمال والمكانة

شكلت هذه الإمارة، التي عاشت مستقلة تقريباً لحوالي 41 عاماً (من 1627 إلى 1668)، كانت فيها تحت سيطرة الدلائيين من عام 1641حتى عام 1668، قوة عسكرية واقتصادية ضخمة. كان النشاط الأساسي هو “الجهاد البحري أو القرصنة، الذي استهدف السفن التجارية والعسكرية الأوروبية.

أهم القادة

من أبرز قادتها، شخصيات مثيرة للجدل، أبرزها:

مراد الريس

مراد الرايس الأصغر (جون جانزون): قرصان هولندي الأصل، اعتنق الإسلام وحكم الإمارة في فترة مبكرة (1624-1627)، ويُنسب إليه توسيع نطاق الغارات إلى أبعد الحدود.

المجاهد محمد العياشي: قائد مغربي معروف، كان يمارس الجهاد البحري والبري ضد الإسبان، ودخل في صراع مع الموريسكيين قبل أن يتفقوا معه وينتخبوه لفترة وجيزة كقائد.

زعماء الديوان الموريسكيون والحرناشيون: الذين كانوا يتداولون السلطة وينتخبون “الأميرال الكبير” سنوياً.

أعمال الإمارة وتأثيرها

وصلت غزوات قراصنة سلا إلى سواحل بعيدة لم يصل إليها أي قراصنة مسلمون آخرون في المحيط الأطلسي، حيث بلغت هجماتهم أيرلندا، وإيسلندا (في غارة شهيرة عام 1627)، وجزر الكناري، وحتى أمريكا أحياناً. كانوا يستولون على السفن والأسرى، الذين يُباعون في أسواق النخاسة بالرباط وسلا أو يُفتدى بهم مقابل مبالغ ضخمة.

هيبة الإمارة وتأثيرها على الملاحة: فرضت هذه القوة هيبتها بشكل كبير على الدول الأوروبية. اضطرت بريطانيا، إسبانيا، وفرنسا لعقد صفقات وتبادل ديبلوماسي مع سلا لتحرير أسراها وتأمين سفنها، بل إن بريطانيا كانت من أوائل الدول التي اعترفت بالإمارة سعياً لحماية تجارتها. في فترة من الفترات، كان البحر السلاوي بحر رعب للأساطيل الأوروبية، واضطرت الدول الكبرى لدفع الإتاوات أو الفدية لتحرير مواطنيها. ومن الطريف، أن بعض الأسرى الأوروبيين، مثل الفرنسي موِيط، الذي أسر عام 1670، كتبوا كتباً عن رحلاتهم في المغرب، وثّقت هيبة هذه الإمارة.

النهاية والإدماج: العودة إلى سلطة الدولة المركزية

كانت العلاقة بين إمارة الجهاد البحري في سلا والسلطة المركزية في المغرب (الدولتان السعدية ثم العلوية) تتسم بالتوتر والتجاذب. في البداية، كانت الإمارة تدفع ضريبة للسلطان السعدي، لكنها أعلنت استقلالها فعلياً، مما أدى إلى صراعات مسلحة وحصار على المدينة.

نهاية هذا الكيان جاءت مع صعود الدولة العلوية التي عملت على توحيد المغرب وإخضاع جميع القوى المستقلة. فبعد فترة من السيطرة النسبية لزاوية الدلائيين على سلا (من 1641 إلى 1668)، تمكن السلطان العلوي مولاي رشيد من إنهاء استقلال الإمارة بشكل نهائي عام 1668 بعد حصار القصبة والمدينة. ورغم ذلك، لم يتوقف النشاط البحري في سلا فوراً، بل تم إدماجه ضمن الأسطول الملكي للدولة العلوية، واستمرت الغارات حتى عهد السلطان مولاي سليمان في القرن التاسع عشر، الذي أدرك أن اختلال ميزان القوى الأوروبي أصبح يضر بالمغرب أكثر مما يفيده، ففكك الأسطول البحري السلاوي، منهياً بذلك عصر “الجهاد البحري” وأسطورة إمارة القراصنة التي زرعت الرعب في قلوب الأوروبيين.

هذا الكيان الصغير، بإرثه السياسي اللامركزي وتعدد لغاته (العربية، الأندلسية، الإسبانية، الهولندية، وغيرها)، ووصول أسْطوله لأقصى الشمال الأطلسي، يظل رمزاً لقوة المغرب البحري ومرونته في مواجهة الضغوط الأوروبية وتحديات القرن السابع عشر، وهو ما يجعله فصلاً بالغ الأهمية في سجل التاريخ المغربي العريق.

حول الكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *