الحرب الجرثومية: سلاح الموت الصامت وتحديات الأمن العالمي

تُمثل الحرب الجرثومية أو البيولوجية أحد أخطر التهديدات الوجودية التي تواجه البشرية في العصر الحديث. فبينما يرى البعض أن الأسلحة النووية هي الخطر الأكبر، تكمن خطورة الأسلحة البيولوجية في صمتها وقدرتها على الانتشار السريع والفتاك، مما يجعلها سلاحًا غير تقليدي قادرًا على إحداث دمار شامل بتكلفة أقل بكثير. تُقدم هذه الدراسة نظرة شاملة وعميقة على مفهوم الحرب الجرثومية، وتاريخها، وأنواعها، ومخاطرها، وصولاً إلى التحديات التي يفرضها تطورها المستقبلي، خاصة في ظل التقدم المتسارع في مجال الذكاء الاصطناعي.
مفهوم الحرب الجرثومية وتاريخها
تُعرّف الحرب الجرثومية بأنها الاستخدام المتعمد للكائنات الدقيقة (مثل البكتيريا، والفيروسات، والفطريات) أو السموم البيولوجية الناتجة عنها، كأدوات حرب لقتل أو إضعاف الأعداء من البشر، أو الحيوانات، أو النباتات. يعود تاريخ استخدام الأسلحة البيولوجية إلى العصور القديمة، وإن كان بشكل بدائي. فقد استخدمت الجيوش القديمة جثث الحيوانات والجنود المصابين بالأمراض المعدية لتلويث آبار المياه وحصار المدن. على سبيل المثال، في عام 1346م، قذف المغول جثث مصابي الطاعون فوق أسوار مدينة كافا في شبه جزيرة القرم، مما يُعتبر أحد أقدم الأمثلة المسجلة للحرب البيولوجية.
في العصر الحديث، تصاعد الاهتمام بالأسلحة البيولوجية خلال الحرب العالمية الأولى، عندما استخدمت القوات الألمانية الجمرة الخبيثة وداء الرعام لقتل الخيول التي كانت تُستخدم في نقل الإمدادات العسكرية. خلال الحرب العالمية الثانية، كثفت العديد من الدول جهودها البحثية في هذا المجال. يُعد “البرنامج 731” الياباني في منشوريا أحد أبشع الأمثلة على ذلك، حيث أجرى العلماء تجارب وحشية على آلاف الأسرى الصينيين والروس، باستخدام أمراض مثل الطاعون والكوليرا والجمرة الخبيثة، وألقوا القنابل الحاملة للبراغيث المصابة بالطاعون على مدن صينية.
بعد الحرب، وقّعت العديد من الدول على بروتوكول جنيف عام 1925، الذي حظر استخدام الأسلحة البيولوجية، ولكنه لم يمنع إنتاجها أو امتلاكها. وفي عام 1972، تم التوقيع على اتفاقية الأسلحة البيولوجية (BWC)، التي حظرت بشكل شامل تطوير وإنتاج وتخزين الأسلحة البيولوجية والسامة. ومع ذلك، لم تلتزم كل الدول بهذه الاتفاقية بشكل كامل، ولا يزال هناك قلق مستمر بشأن البرامج السرية.

أنواع الأسلحة الجرثومية وخصائصها
تُصنّف الأسلحة الجرثومية إلى عدة أنواع رئيسية بناءً على نوع الكائن الحي أو السم المستخدم:
البكتيريا: كائنات حية دقيقة يمكن استخدامها لإحداث أمراض مثل الجمرة الخبيثة (Anthrax)، والطاعون (Plague)، وداء التولاريميا (Tularemia). تُعتبر الجمرة الخبيثة من أشهر هذه الأسلحة، حيث يمكن لجرعة صغيرة من أبواغها أن تسبب عدوى قاتلة.
الفيروسات: كائنات دقيقة أصغر حجمًا من البكتيريا، تُستخدم في إنتاج أسلحة مثل فيروس الإيبولا (Ebola) وفيروس الجدري (Smallpox). يُعد فيروس الجدري من أخطرها، حيث تم القضاء عليه بشكل طبيعي في السبعينيات، لكن هناك مخزونات معروفة منه في عدد قليل من المختبرات، وإطلاق سلالة مُعدلة منه يمكن أن يسبب كارثة عالمية.
الريكتسيا: بكتيريا طفيلية تنقلها الكائنات المفصلية، وتسبب أمراضًا مثل حمى كيو (Q Fever) وداء الريكتسيا.
السموم (Toxins): مواد كيميائية سامة تنتجها كائنات حية، مثل سم البوتولينوم (Botulinum Toxin) الذي يُعتبر أحد أقوى السموم المعروفة. جرعة صغيرة منه يمكن أن تقتل ملايين البشر.
الفطريات: تُستخدم بشكل أقل في الحرب الجرثومية، لكن بعض أنواعها يمكن أن تُستخدم لتدمير المحاصيل الزراعية وإحداث مجاعة.
تتميز الأسلحة الجرثومية بعدة خصائص تجعلها فريدة من نوعها:
التكاثر الذاتي: يمكن لعدد قليل من الكائنات الدقيقة أن يتكاثر بسرعة هائلة في بيئة مناسبة.
فترة الحضانة: تحتاج الأمراض البيولوجية إلى فترة زمنية معينة (من بضعة أيام إلى أسابيع) قبل أن تظهر أعراضها، مما يصعّب الكشف عن الهجوم وتحديد مصدره.
الانتشار الواسع: يمكن إطلاق هذه الأسلحة في شكل رذاذ (Aerosol)، مما يسمح لها بالانتشار عبر الهواء لمسافات شاسعة.
الأسلحة العرقية: كابوس الاستهداف الجيني
إلى جانب الأنواع التقليدية من الأسلحة البيولوجية، يبرز نوع جديد وأكثر خطورة يُطلق عليه “الأسلحة العرقية” أو “أسلحة الاستهداف الجيني”. يعتمد هذا المفهوم على التقدم الهائل في علم الجينوم البشري والتكنولوجيا الحيوية، حيث يُفترض أن هذه الأسلحة تُصمم لاستهداف مجموعات سكانية معينة بناءً على خصائصها الجينية. الفكرة الأساسية تقوم على أن هناك اختلافات جينية طفيفة بين المجموعات العرقية والإثنية تجعلها أكثر عرضة للإصابة بأمراض معينة أو تجعلها أقل استجابة لعلاجات محددة.
تُعتبر هذه الأسلحة من أكثر السيناريوهات المرعبة في الحرب الجرثومية، وذلك لعدة أسباب:
الاستهداف الدقيق: نظرياً، يمكن تصميم فيروس أو بكتيريا معدلة وراثيًا لتسبب مرضًا قاتلًا فقط في الأفراد الذين يحملون تسلسلًا جينيًا معينًا، بينما يظل الأفراد من المجموعات الأخرى آمنين. على سبيل المثال، قد تستهدف سلاسل بروتينية معينة أو إنزيمات شائعة في مجموعة عرقية محددة.
القدرة على الإنكار: إذا تم استخدام مثل هذا السلاح، فمن الصعب للغاية إثبات مصدره أو طبيعته العدائية، حيث يمكن أن يُفسر الوباء على أنه ظاهرة طبيعية أو تفشٍ عشوائي لمرض جديد، مما يمنح الدولة المهاجمة القدرة على الإنكار الكامل.
الاستخدام السياسي والاستراتيجي: قد تُستخدم هذه الأسلحة لتحقيق أهداف سياسية واجتماعية، مثل إضعاف دولة معينة من خلال استهداف عرقية مهيمنة فيها، أو القضاء على مقاومة إثنية معينة دون المساس بالسكان الآخرين.
على الرغم من أن العلماء يؤكدون أن تصميم سلاح بيولوجي دقيق بهذا الشكل يظل تحديًا تقنيًا هائلًا، إلا أن التطورات المتسارعة في الهندسة الوراثية والذكاء الاصطناعي تجعل هذا السيناريو أقرب إلى الواقع من أي وقت مضى. تُعد هذه الاحتمالية تهديدًا وجوديًا يفتح الباب أمام حروب ذات دوافع عنصرية وعرقية، مما يقوض بشكل جذري كل المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تحظر الأسلحة البيولوجية.

الأهداف من امتلاك الأسلحة الجرثومية
تسعى الدول المختلفة لامتلاك هذه الأسلحة لتحقيق أهداف استراتيجية متعددة، منها:
الردع: تُعتبر هذه الأسلحة قوة ردع فعالة، حيث تمنع الدول المعادية من شن هجمات عسكرية تقليدية خوفًا من الرد بهجوم بيولوجي.
القوة الناعمة: يمكن استخدامها كأداة للضغط على الدول الأخرى أو تحقيق مكاسب سياسية دون الحاجة لدخول حرب مباشرة.
تغيير ميزان القوى: تمنح هذه الأسلحة الدول الصغيرة قدرة على تهديد الدول الكبرى، مما يغير من ميزان القوى العالمي.
تطوير القدرات الدفاعية: تُبرر بعض الدول برامجها البحثية بأنها تهدف إلى تطوير لقاحات وعلاجات لمواجهة هجمات بيولوجية محتملة، وهو ما قد يُستخدم كغطاء لتطوير أسلحة هجومية.
الآثار قصيرة، ومتوسطة، وطويلة الأمد
تتجاوز آثار الحرب الجرثومية مجرد الخسائر في الأرواح، لتشمل تدميرًا شاملاً للنظم الاجتماعية والاقتصادية.
الآثار قصيرة الأمد:
خسائر بشرية هائلة: تفشي الوباء يؤدي إلى وفيات جماعية، وإصابات جسيمة، وشلّ للمرافق الطبية.
انهيار الخدمات الأساسية: تعطل الأنظمة الصحية، وشبكات النقل، وسلاسل الإمداد الغذائي بسبب تفشي المرض والخوف منه.
الذعر الاجتماعي: انتشار حالة من الخوف والهلع، مما يؤدي إلى الفوضى والاضطرابات المدنية.
الآثار متوسطة الأمد:
تدهور اقتصادي: توقف الإنتاج، وتدمير قطاعات اقتصادية حيوية، وفرض قيود على السفر والتجارة. تُقدّر دراسات أن هجومًا بيولوجيًا على مدينة كبرى يمكن أن يكلف الاقتصاد تريليونات الدولارات.
أزمات نفسية واجتماعية: ظهور حالات اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، والاكتئاب، والوصمة الاجتماعية للمصابين، وتفكك الروابط الأسرية.
أزمة ثقة: فقدان الثقة في الحكومات والمؤسسات الدولية وقدرتها على حماية المواطنين.
الآثار طويلة الأمد:
تغيرات ديموغرافية: قد يؤدي الوباء إلى انخفاض حاد في عدد السكان، وتغيير التركيبة السكانية لمناطق بأكملها.
تدهور بيئي: قد تُستخدم الأسلحة الجرثومية لتدمير المحاصيل الزراعية والماشية، مما يؤدي إلى مجاعة طويلة الأمد وتغيرات بيئية.
سباق تسلح بيولوجي جديد: قد يؤدي استخدام هذه الأسلحة إلى إطلاق سباق تسلح سري بين الدول، مما يزيد من احتمالية استخدامها مرة أخرى.
الدول التي تملك الأسلحة الجرثومية وتحديات التحقق
وفقًا للمعلومات المتاحة للجمهور، لا توجد دولة تُعلن صراحةً عن امتلاكها للأسلحة البيولوجية، نظرًا للاتفاقيات الدولية التي تحظرها. ومع ذلك، تشير تقارير استخباراتية وتحليلات مستقلة إلى أن عددًا من الدول لديها برامج بحثية قد تُستخدم في إنتاج هذه الأسلحة. من أبرز الدول التي غالبًا ما تُذكر في هذا السياق:
روسيا: يُعتقد أنها ورثت برنامج الاتحاد السوفيتي الضخم للأسلحة البيولوجية، والذي كان يُعرف بـ “بيوبريبارات” (Biopreparat).
الولايات المتحدة: على الرغم من إنهاء برنامجها الرسمي في عام 1969، إلا أن هناك مخاوف من وجود برامج بحثية سرية تحت غطاء الأبحاث الدفاعية.
الصين: هناك مخاوف من أن برنامجها الدفاعي قد يشمل أبحاثًا في الأسلحة البيولوجية.
كوريا الشمالية: يُعتقد أنها تملك برنامجًا سريًا للأسلحة الجرثومية.
إيران: تُشير تقارير إلى امتلاكها لبرنامج بحثي قد يُستخدم في أغراض هجومية.
تُعد مشكلة التحقق من عدم امتلاك هذه الأسلحة تحديًا كبيرًا، حيث يمكن بسهولة إخفاء المختبرات والبرامج البحثية في منشآت مدنية أو جامعية، مما يصعّب على المفتشين الدوليين اكتشافها.
مقارنة مع الأسلحة النووية والكيميائية

تُعتبر الأسلحة الجرثومية أخطر من الأسلحة الكيميائية، وأكثر تعقيدًا من ناحية التحكم فيها، لكنها أقل قوة تدميرية فورية من الأسلحة النووية.
النوع | الأسلحة الجرثومية | الأسلحة الكيميائية | الأسلحة النووية |
التكلفة | منخفضة نسبيًا | منخفضة نسبيًا | مرتفعة جدًا |
الانتشار | بطيء وغير مرئي | سريع ومرئي (في الغالب) | فوري (موجة انفجار وإشعاع) |
المدى | واسع جدًا (عبر الرياح) | محدود (يعتمد على الرياح) | واسع جدًا (موجة الانفجار) |
التأثير | انتشار وبائي غير متحكم فيه | تأثير مباشر على المستهدف | تدمير شامل للمنطقة المستهدفة |
الكشف | صعب جدًا بسبب فترة الحضانة | سهل نسبيًا (روائح، أعراض فورية) | سهل جدًا (إشعاع، دمار مادي) |
أثر الهجوم | خسائر بشرية بطيئة وتدهور صحي | وفيات وإصابات فورية أو متأخرة | تدمير شامل للمدن والبنى التحتية |
تكمن خطورة الأسلحة الجرثومية في عدم القدرة على السيطرة على انتشارها. فبينما يمكن للأسلحة النووية والكيميائية أن تسبب دمارًا محددًا، يمكن لوباء بيولوجي أن ينتشر إلى الدول الصديقة والمعادية على حد سواء، مما يجعلها سلاحًا ذو حدين لا يمكن التحكم فيه بسهولة.
احتمالات استخدامها في حروب المستقبل
على الرغم من الحظر الدولي، تزداد احتمالات استخدام الأسلحة البيولوجية في المستقبل، وذلك لعدة أسباب:
الإرهاب البيولوجي: قد تستخدم الجماعات الإرهابية هذه الأسلحة لشن هجمات غير متماثلة (Asymmetric warfare) ضد الدول الكبرى، حيث يمكنها إحداث دمار هائل بتكلفة بسيطة.
الحروب غير المعلنة: يمكن للدول أن تستخدم هذه الأسلحة في حروب سرية، مما يسمح لها بإنكار مسؤوليتها عن الهجوم.
التكنولوجيا الحيوية: التقدم في مجال الهندسة الوراثية وتعديل الجينات يُمكّن العلماء من إنتاج كائنات دقيقة أكثر فتكًا ومقاومة للعلاج.
قد تُستخدم هذه الأسلحة في حروب المستقبل لأهداف استراتيجية، مثل تدمير مصادر الغذاء للعدو، أو إحداث أزمة صحية واقتصادية تؤدي إلى انهيار الدولة المستهدفة دون الحاجة لغزو عسكري تقليدي.
الذكاء الاصطناعي: أداة تدمير أم حماية؟
يُمثل الذكاء الاصطناعي (AI) ثورة في مختلف المجالات، ولكن في مجال الأسلحة البيولوجية، يطرح تحديات وجودية. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُستخدم في:
تسريع عملية تطوير الأسلحة: يمكن لخوارزميات الذكاء الاصطناعي تحليل كميات هائلة من البيانات البيولوجية لتحديد الجينات المسؤولة عن فتك الأمراض، وتصميم فيروسات وبكتيريا مُعدلة وراثيًا بشكل أسرع بكثير مما يمكن للبشر فعله.
استهداف مجموعات معينة: يمكن للذكاء الاصطناعي تصميم أسلحة جرثومية تستهدف مجموعات عرقية أو سكانية معينة بناءً على خصائصها الجينية.
إنتاج أوبئة لا يمكن علاجها: يمكن للذكاء الاصطناعي أن يجد طرقًا لجعل الفيروسات مقاومة لكل أنواع العلاجات المتاحة، مما يجعل الوباء قاتلاً.
إذا تم توظيف الذكاء الاصطناعي في هذا المجال بشكل غير مسؤول، فإنه قد يُنتج أسلحة جرثومية قادرة على التفتك بالبشرية جمعاء، حيث يمكن أن يخرج الوباء عن السيطرة وينتشر عالميًا دون وجود أي علاج. ومع ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة حماية أيضًا، حيث يمكن استخدامه لتطوير لقاحات وعلاجات بسرعة أكبر، وتتبع انتشار الأوبئة، والتنبؤ بمخاطرها. التحدي الأكبر هو في كيفية ضمان استخدام هذه التكنولوجيا لخدمة البشرية وليس لتدميرها.
في الختام، تُشكل الحرب الجرثومية تهديدًا معقدًا ومتعدد الأوجه، تتجاوز مخاطرها التدمير المادي لتصل إلى انهيار النظم الاجتماعية والاقتصادية، وتضع البشرية أمام تحدٍ أخلاقي وعلمي لا مثيل له. فكيف يمكن للمجتمع الدولي أن يضمن عدم استخدام هذه الأسلحة، خاصة في ظل تقدم التكنولوجيا الذي يسهل إنتاجها؟ هذا هو السؤال الذي ستبقى إجابته محورية في تحديد مستقبل الأمن العالمي.