الخطاب الملكي 10 أكتوبر 2025: نحو مغرب العدالة المجالية وتحديث الفعل التنموي

د. محمد الأمين البقالي الطاهري (أستاذ جامعي مغربي
في خطابه السامي الموجّه إلى الأمة، بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية الأولى من السنة الأخيرة للولاية الحكومية والبرلمانية (10 أكتوبر 2025)، رسم الملك محمد السادس ملامح رؤية استراتيجية متكاملة تستهدف تثبيت مقومات “مغرب صاعد، متضامن ومنفتح على التغيير”. خطاب لم يكن بروتوكوليًا أو ظرفيًا، بل شكّل دعامة فكرية وسياسية متينة لبلورة مسار تنموي جديد، مرتكز على العدالة الاجتماعية والمجالية، ثقافة النتائج، والمسؤولية المؤسساتية الجماعية.
المسؤولية المؤسسية: برلمان يواصل لا يُناور. الخطاب الملكي أكد في مقدمته على الدور الجوهري لمؤسسة البرلمان، ليس فقط من حيث وظائف التشريع والمراقبة، بل أيضًا باعتبارها إحدى قنوات الدبلوماسية الموازية. إلا أن الميزة الأبرز للخطاب في هذا الباب هي دعوته الصريحة لنواب الأمة إلى تفادي الوقوع في فخ “الانتظارية السياسية”، أو الدخول المبكر في حسابات ما قبل الانتخابات، والتركيز عوض ذلك على استكمال ما بدأ، وتحقيق تراكم نوعي في الأداء البرلماني.
العدالة المجالية: من الشعار إلى الالتزام المصيري. لعل النقلة المفاهيمية الأبرز التي يكرّسها الخطاب تكمن في التحوّل من اعتبار العدالة المجالية مجرد أولوية ظرفية إلى جعلها رِهانًا استراتيجيًا وهيكليًا يجب أن يحكم السياسات العمومية في مختلف مستوياتها. وفي هذا الإطار، شدد الخطاب على ربط البرامج الكبرى الوطنية بالمشاريع الاجتماعية الترابية، باعتبار أن التنمية لا تتحقق إلا بمداخل مندمجة، تراعي التوازن بين المركز والهامش، وبين المردودية الاقتصادية والتماسك الاجتماعي.
أولويات التنمية الجديدة: الإقلاع من القاع. وضعت التوجيهات الملكية خطوطًا واضحة للأولويات المقبلة في برامج التنمية، والتي تهمّ:
• دعم الاقتصاد المحلي وخلق فرص الشغل، خاصة لدى الشباب.
• تحسين الخدمات العمومية الأساسية كالصحة والتعليم. • تثمين الرأسمال الجغرافي الهش، كالمناطق الجبلية والواحات، ودمجها في الدورة التنموية.
• تطوير الساحل كمجال واعد داخل الاقتصاد الأزرق، مع احترام التوازن البيئي.
• تحويل المراكز القروية إلى نواة حضرية لامركزية تُمكّن من تخفيف الضغط عن المدن. هذه المحاور تعكس انتقالًا نوعيًا من المقاربة القطاعية إلى الرؤية الترابية الشاملة، التي تدمج المكان والإنسان والمؤسسة في مشروع تنموي موحد.
التحول في العقليات: شرط التحول التنموي أبرز ما يحسب لهذا الخطاب هو أنه لم يقف عند حد التشخيص أو توجيه الأولويات، بل توجه إلى بنية الفعل التنموي نفسها، داعيًا إلى:
• تحديث العقليات التدبيرية، وترسيخ ثقافة النتائج بدل ثقافة الإنجاز الشكلي.
• الاستثمار في الرقمنة والمعطيات الدقيقة كأساس لاتخاذ القرار العمومي.
• إنهاء الممارسات البيروقراطية التي تُبدد الوقت والموارد. • تعزيز التواصل المؤسساتي وتأطير المواطن في فهم السياسات العامة. وفي هذا السياق، يُحمّل الخطاب المسؤولية لجميع الفاعلين، من حكومة وبرلمان وأحزاب ومجتمع مدني وإعلام، لتشكيل جبهة وطنية تنموية متكاملة، لا يطغى فيها التنافس السياسي على المصلحة العليا للبلاد.
أسئلة عالقة وتحفيز للتفكير، ومع عمق مضامينه، يثير الخطاب الملكي أسئلة جوهرية تستحق النقاش العمومي والأكاديمي:
1. كيف يمكن لمؤسسة البرلمان –رغم طابعها التشريعي– أن تعزز دورها في الدفع ببرامج العدالة المجالية؟ هل من خلال مساءلة فعالة؟ أم عبر تشريعات ملزمة؟ أم من خلال الوساطة السياسية والتمثيلية الفاعلة؟
2. ما هي الآليات التي يمكن من خلالها قياس “ثقافة النتائج” التي دعا إليها الخطاب؟ هل ستُفعّل مؤشرات الأداء القطاعية؟ هل ستُربط ميزانيات الجماعات والإدارات بمردودية واضحة؟ 3. إلى أي حد يمكن لإشراك المراكز القروية والمناطق الجبلية أن يساهم في تقليص الفوارق الصارخة بين الجهات؟ وهل نمتلك سياسات عمومية ترابية تمييزية إيجابية حقيقية، لا مجرد برامج جزئية موسمية؟
في الختام الخطاب الملكي ليوم 10 أكتوبر 2025 ليس مجرد وثيقة سياسية ختامية لولاية برلمانية، بل هو إعلان مرحلة جديدة في الفعل التنموي المغربي، قائمة على التجاوز الجذري للممارسات التقليدية، والتحوّل نحو نموذج تنموي ترابي ومندمج.إنّ تحقيق مضامين هذا الخطاب يتطلب إرادة جماعية، تشريعية وتنفيذية، حزبية ومجتمعية، قادرة على استثمار الزمن السياسي بدل استهلاكه، وتغليب المنفعة الوطنية على الحسابات الفئوية أو الظرفية.“العدالة المجالية ليست شعارًا فارغًا، بل رهان مصيري”… فهل نحن مستعدون للوفاء بهذا الرهان؟
