تجربة “الإنصاف والمصالحة” في المغرب: نموذج رائد لإرساء العدالة في العالم العربي وأفريقيا

مقدمة
في وقت تواجه فيه العديد من الدول العربية والإفريقية صعوبات جمّة في تجاوز ماضيها المثقل بالصراعات والانتهاكات، تبرز التجربة المغربية في العدالة الانتقالية كنموذج متقدّم لتحقيق المصالحة الوطنية بشكل متوازن وفعّال. فقد اختارت المملكة المغربية، تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس، نهجًا قائمًا على الاعتراف بالضحايا، وجبر الضرر، وإصلاح المؤسسات، دون المساس بالاستقرار السياسي أو الانزلاق نحو منطق الانتقام.
وتتميز هذه التجربة بتراكم دروس عميقة في تدبير الذاكرة الجماعية وترسيخ سيادة القانون، ما يجعل منها نموذجًا قابلاً للتكييف في سياقات عربية وإفريقية أخرى، تسعى بدورها إلى معالجة إرث الانتهاكات وبناء مستقبل ديمقراطي قائم على المصالحة والإنصاف.
وتُعد العدالة الانتقالية من أبرز الآليات التي طوّرتها المجتمعات المعاصرة لمواجهة آثار انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة التي وقعت خلال فترات الحكم الاستبدادي أو النزاعات الداخلية. وقد بيّنت التجارب الدولية أن التحول الديمقراطي لا يقتصر على تنظيم الانتخابات أو صياغة الدساتير، بل يتطلب معالجة الماضي بشجاعة سياسية ونضج أخلاقي، بما يُعزز الثقة في مؤسسات الدولة ويُكرّس مبدأ عدم التكرار.
وفي هذا الإطار، تبرز التجربة المغربية كإحدى أبرز المبادرات الرائدة في العالمين العربي والإفريقي، حيث شكّل تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2004، بمبادرة سامية من جلالة الملك محمد السادس، محطة مفصلية في مسار العدالة الانتقالية بالمغرب. وقد جاء هذا القرار ليؤكد التزام الدولة بنهج المصالحة وترسيخ قيم الإنصاف والعدالة، بعيدًا عن العقوبات الجنائية أو الحسابات السياسية الضيقة، مع التركيز على رد الاعتبار للضحايا وجبر الضرر الفردي والجماعي.
واستندت الهيئة في عملها إلى مرجعية حقوقية متقدمة مستلهمة للمعايير الدولية، وعملت بشفافية على توثيق الانتهاكات الجسيمة التي وقعت بين عامي 1956 و1999، مستفيدة من الدعم المؤسسي للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان آنذاك، ومن التفاعل الإيجابي للمجتمع المدني، فضلًا عن انخراط الضحايا أنفسهم في مسار كشف الحقيقة وبناء الذاكرة الجماعية.
وبالإضافة إلى دور هيئة الإنصاف والمصالحة، ساهمت مؤسسات أخرى في دعم هذا المسار، وعلى رأسها المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الذي تولى متابعة تنفيذ توصيات الهيئة، خصوصًا ما يتعلق بجبر الضرر الجماعي، وإدماج الضحايا في الحياة العامة، وتيسير الحوار المجتمعي حول المصالحة والذاكرة، إلى جانب دعم إصلاحات تشريعية ومؤسساتية تهدف إلى تعزيز الضمانات ضد تكرار الانتهاكات.
يهدف هذا المقال إلى تحليل مفهوم العدالة الانتقالية من خلال استعراض أبعاده النظرية، وآلياته التنفيذية، والتحديات التي تعترض مساراته، مع تسليط الضوء على النموذج المغربي باعتباره تجربة رائدة على مستوى عربي وافريقي متقدم في المصالحة الوطنية، واستحضار بعض التجارب المقارنة لتوسيع آفاق الفهم حول تباين السياقات واختلاف المقاربات المعتمدة عبر العالم.
أولًا: تأصيل مفهومي ونشأة العدالة الانتقالية
العدالة الانتقالية هي مجموعة من الإجراءات القضائية وغير القضائية التي تعتمدها الدول التي تمرّ من مرحلة قمع أو نزاع إلى مرحلة بناء السلام أو ترسيخ الديمقراطية، بهدف معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. تشمل هذه الإجراءات المحاكمات الجنائية، ولجان الحقيقة، وجبر الضرر، والإصلاح المؤسسي، وآليات المصالحة.
وقد ظهرت العدالة الانتقالية في أمريكا اللاتينية مع نهاية الأنظمة العسكرية، لتتبلور تدريجيًا كتخصص مستقل في القانون الدولي وحقوق الإنسان، وخصوصًا بعد تجربة جنوب إفريقيا في تجاوز إرث الأبارتايد. كما ساهمت تقارير الأمم المتحدة، وعلى رأسها تقرير الأمين العام حول “سيادة القانون والعدالة الانتقالية في مجتمعات ما بعد النزاع” (2004)، في تقعيد المفهوم ووضع معايير دولية له.
في هذا الإطار، يشكل المغرب نموذجًا استثنائيًا في العالم العربيوافريقيا ، حيث تم تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2004، كأول لجنة حقيقة تُنشأ بمبادرة من الدولة وليس نتيجة انهيار نظامها، وهو ما أعطى بعدًا خاصًا لهذه التجربة من حيث ديناميتها وسياقها السياسي.

ثانيًا: الغايات الأساسية للعدالة الانتقالية
العدالة الانتقالية ليست مجرد محاسبة قانونية، بل مشروع مجتمعي شامل يتقاطع فيه السياسي مع القانوني، والرمزي مع المؤسساتي، ومن أبرز أهدافها:
كشف الحقيقة وبناء الذاكرة الجماعية
تشكل الحقيقة العمود الفقري لأي مصالحة وطنية. فقد عملت هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب على توثيق حالات الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي، ونشرت تقريرًا ختاميًا يُعد من أبرز الوثائق في تاريخ حقوق الإنسان بالمملكة، ما ساهم في صياغة ذاكرة وطنية مشتركة تنبني على الاعتراف بالضحايا.
إقرار المساءلة وإنهاء الإفلات من العقاب
رغم أن التجربة المغربية لم تفضِ إلى محاكمات قضائية، فإنها حملت شكلًا من “المساءلة الأخلاقية والسياسية” من خلال جلسات الاستماع العلنية التي تابعها المغاربة لأول مرة على شاشات التلفزة، والتي أسهمت في رفع الوعي المجتمعي وربط المسؤولية بالمحاسبة الرمزية.
إنصاف الضحايا وجبر الأضرار
ركزت المقاربة المغربية على تعويض المتضررين ماديًا ومعنويًا، سواء من خلال تقديم تعويضات مالية أو إعادة الإدماج الاجتماعي أو التأهيل الصحي والنفسي، فضلًا عن جبر الضرر الجماعي لفائدة المناطق المتضررة، وهو ما عزز الشعور بالإنصاف والمصالحة مع الدولة.
إصلاح المؤسسات
أوصت هيئة الإنصاف والمصالحة بجملة من الإصلاحات المؤسساتية، خصوصًا في مجالات الأمن والقضاء والتشريع، لتعزيز الضمانات القانونية ضد تكرار الانتهاكات، وقد تم بالفعل اعتماد بعض هذه التوصيات، خاصة في ما يتعلق بتوسيع اختصاصات المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وضمان استقلال القضاء.
المصالحة الوطنية
في نهاية المطاف، تهدف العدالة الانتقالية إلى ترميم العلاقة بين الدولة والمجتمع، وتحقيق مصالحة حقيقية مبنية على الاعتراف والاحترام المتبادل، لا على النسيان أو التواطؤ مع الماضي.
ثالثًا: آليات العدالة الانتقالية
تختلف أدوات العدالة الانتقالية من بلد لآخر حسب السياق السياسي والاجتماعي، لكنها غالبًا ما تتكامل في أربعة محاور رئيسية:
المحاكمات
وإن كانت التجربة المغربية قد استبعدت هذا الخيار لأسباب تتعلق بالتوازن السياسي، فإن دولًا أخرى مثل الأرجنتين ورواندا اختارت المحاكمات كوسيلة مركزية لتحقيق العدالة، خاصة في الجرائم ذات الطابع الجماعي.
هيئات الحقيقة
شكلت هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب مثالًا بارزًا لهذه الهيئات، حيث اعتمدت التحقيق والتوثيق والاستماع للضحايا، وأصدرت توصيات عملية، بعيدًا عن الطابع القضائي. كما تميزت بكونها أول هيئة من هذا النوع في البلاد العربية.
جبر الضرر
أطلقت الدولة المغربية برنامجًا متكاملًا لجبر الضرر، شمل آلاف المستفيدين، وكان من أبرز عناصره تخصيص اعتمادات مالية، وتوفير خدمات صحية وتعليمية، إلى جانب رمزية الاعتراف العلني بمعاناة الضحايا.
إصلاح المؤسسات
لم تتوقف العدالة الانتقالية في المغرب عند حد جبر الضرر، بل سعت إلى إعادة بناء الثقة عبر إصلاح مؤسسات الدولة وتعزيز الضمانات الحقوقية، ما مهّد لفتح نقاشات مجتمعية أوسع حول دور الدولة، وحدود السلطة، ومفهوم الأمن.
رابعًا: التحديات والإكراهات
على الرغم من أهمية تجربة العدالة الانتقالية في المغرب وريادتها على المستويين العربي والإفريقي، فإنها لم تَخلُ من صعوبات وإكراهات أثرت على بعض أبعادها، سواء على مستوى التنفيذ أو في ما يتعلق بالتفاعل المجتمعي والمؤسساتي. ويمكن إبراز أهم هذه التحديات في ما يلي:
الإشكالية بين المصالحة والمساءلة
يُطرح إشكال التوازن بين العدالة والمصالحة، إذ يُنظر إلى غياب المحاكمات في التجربة المغربية كأحد نقاط ضعفها، وإن كانت المقاربة اختارت التركيز على بناء الثقة بدل الانتقام.
محدودية الإرادة السياسية
رغم الإرادة الملكية الواضحة آنذاك، إلا أن تنفيذ بعض توصيات الهيئة واجه صعوبات سياسية وإدارية، خصوصًا في ما يتعلق بالإصلاحات المؤسساتية والتشريعية.
تحديات إدماج الذاكرة الجماعية في التعليم والإعلام
على الرغم من القيمة الرمزية والمعرفية الكبيرة لمخرجات هيئة الإنصاف والمصالحة، إلا أن إدماجها في السياسات التعليمية والإعلامية ظل محدودًا نسبيًا ولم تُواكب بتصورات منهجية كافية تضمن نقل الذاكرة الجماعية إلى الأجيال الجديدة، وتعزيز الوعي المجتمعي بمضامين المصالحة
خامسًا: تجارب مقارنة في العدالة الانتقالية
تُعد دراسة التجارب الدولية في مجال العدالة الانتقالية ضرورية لفهم التنوع في الآليات والأهداف، وتأثير السياقات السياسية والاجتماعية المختلفة على نجاح أو تعثر هذه المسارات. فيما يلي عرض موجز لأبرز نماذج العدالة الانتقالية في بعض الدول، مع التركيز على خصوصيات كل تجربة:
جنوب إفريقيا
اعتمدت جنوب إفريقيا نموذج لجنة الحقيقة والمصالحة الذي يقوم على مبدأ “العفو مقابل الحقيقة”. ورغم الجدل الذي أثاره هذا النموذج، فقد ساهم بشكل فعال في تخطي صدمة نظام الفصل العنصري (الأبارتايد)، وبناء مجتمع متعدد الأعراق على أساس المصالحة الوطنية والاعتراف المتبادل، مما جعله مرجعًا هامًا في مجال العدالة الانتقالية.
تونس
أنشأت تونس هيئة الحقيقة والكرامة لمعالجة انتهاكات الماضي في إطار الانتقال الديمقراطي بعد ثورة 2011. إلا أن هذه الهيئة واجهت تحديات كبيرة تتمثل في العراقيل السياسية والانقسامات المجتمعية الحادة، التي أثرت سلبًا على فعاليتها وقدرتها على تحقيق المصالحة الشاملة.
رواندا
اتخذت رواندا منهجًا مختلفًا عبر اعتماد محاكم الغاكاكا التقليدية بعد الإبادة الجماعية عام 1994. ركز هذا النموذج على العدالة المجتمعية والمصالحة المحلية، مستندًا إلى تقاليد مجتمعية تهدف إلى إعادة بناء النسيج الاجتماعي في سياق يختلف جذريًا عن النماذج الغربية أو العربية.
المغرب
تميز النموذج المغربي بتوازن نسبي بين الاعتراف بالضحايا والحفاظ على الاستقرار السياسي. مع تركيز خاص على جبر الضرر الفردي والجماعي، وإصلاح المؤسسات، والاعتراف الرمزي بمآسي الماضي، مع تجنب المحاكمات القضائية الواسعة ، بحيث اصبح هذا النموذج رائدًا في المنطقة العربية والإفريقية، ويشكل مصدر إلهام للبلدان التي تسعى لمعالجة ماضيها بأسلوب يوازن بين الإنصاف والاستقرار.
سادسًا: العدالة الانتقالية وبناء الدولة الديمقراطية
تكشف التجربة المغربية أن العدالة الانتقالية ليست محطة عابرة، بل ركيزة من ركائز بناء الدولة الحديثة، حيث تُسهم في ترسيخ ثقافة المحاسبة، وتعزيز المشاركة المواطِنة، وإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس من الشفافية والاحترام المتبادل.
العدالة الانتقالية تُدرّب المجتمعات على إدارة ذاكرتها بوعي، لا بإنكار الماضي أو التماهي معه، بل بجعله رافعة لبناء مستقبل يتسع للجميع دون إقصاء أو انتقام.
خاتمة
لقد جسدت التجربة المغربية في العدالة الانتقالية لحظة فارقة في مسار التحول السياسي والحقوقي، حيث شكّلت نموذجًا ناضجًا لمعالجة ماضي الانتهاكات وبناء دولة حديثة قائمة على المصالحة وسيادة القانون. وقد كان للدور الريادي للملك محمد السادس أثر بالغ في توجيه هذا المسار، من خلال دعمه الواضح للمصالحة الوطنية، وإرسائه لإصلاحات مؤسساتية ودستورية عمّقت مبادئ الحكامة والشفافية والمساءلة، في أفق ترسيخ دولة الحق والقانون.
كما ان هذه الإرادة السياسية الملكية العليا من تحويل العدالة الانتقالية إلى مدخل فعّال لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وإطلاق إصلاحات عميقة شملت البُعد الحقوقي والدستوري والمؤسساتي. وبهذا، أصبحت التجربة المغربية في مجال العدالة الانتقالية مرجعًا إقليميًا يُحتذى، سواء في المحيطين العربي والافريقي لما أبرزته من دور محوري للمجتمع المدني، ولما تنطوي عليه من دروس قابلة للتقاسم مع الدول الساعية إلى معالجة ماضي الانتهاكات وبناء مستقبل قائم على المصالحة وسيادة القانون لما توفره من دروس قابلة للتكييف في السياقات التي تبحث عن الإنصاف دون الإخلال بالاستقرار، وعن المصالحة كأرضية لبناء مستقبل ديمقراطي.