المغرب في إفريقيا: استثمار في التنمية بديلا لمنطق الوصاية والهيمنة

King Mohammed 6 in Africa

تشهد القارة الإفريقية تحولات كبرى دفعت بالسياسات الاقتصادية إلى تجاوز العلاقات الثنائية التقليدية، لتصبح أداة لإعادة تشكيل النفوذ الإقليمي والدولي.
في هذا السياق، يبرز المغرب كنموذج فاعل يعتمد الاستثمار كوسيلة استراتيجية لتعزيز حضوره الإفريقي، عبر مقاربة تنموية تقوم على الشراكة جنوب–جنوب.
فمنذ اعتلاء جلالة  الملك محمد السادس العرش، تحوّلت السياسة الإفريقية للمغرب إلى رؤية شاملة، تجسدت في زيارات رسمية مكثفة ومشاريع كبرى في دول جنوب الصحراء.
وتهدف هذه السياسة إلى تحويل المملكة إلى منصة اقتصادية إقليمية تستقطب الاستثمارات وتربط شمال القارة بجنوبها.
تعتمد هذه الرؤية المغربية على عناصر رئيسية، منها الاستقرار السياسي، البنية التحتية، والانفتاح الاقتصادي، مدعومة بدبلوماسية فعالة ذات تأثير مؤسساتي وثقافي ، فالاستثمارات المغربية في غرب إفريقيا والساحل، خاصة في قطاعات المال والطاقة والاتصالات، جعلت المملكة ثاني أكبر مستثمر في القارة. ولا تنفصل هذه الدينامية عن أهداف استراتيجية بعيدة المدى تروم بناء عمق إفريقي مستقل للمصالح المغربية. فالرباط تسعى  من خلالها إلى تجاوز منطق التبعية، وإرساء علاقات تنموية متوازنة تقوم على المنفعة المتبادلة.وتكتسب هذه الاستراتيجية أهمية متزايدة في ظل التنافس الدولي المتسارع على إفريقيا من قِبل قوى كالصين وروسيا وتركيا.
في هذا السياق يراهن المغرب على قربه الجغرافي والثقافي والديني، إضافة إلى شرعية الإنجاز، لتعزيز صورته كشريك موثوق ومستدام .وقد تحوّلت سياسته الإفريقية إلى رافعة اقتصادية محورية ضمن رؤية تنموية وأمنية متكاملة.إنها رؤية تسعى لبناء فضاء إفريقي أكثر ترابطًا واستقلالية في قراراته التنموية.ويعكس هذا التوجه وعيًا استراتيجيًا بديناميات القارة وضرورة التموقع الذكي داخلها ، كما يُجسد تصورًا جديدًا للدور الإقليمي المغربي، قائمًا على الفعالية والبراغماتية.
في المجمل، يشكل النموذج المغربي تجربة صاعدة في دمج الاقتصاد بالدبلوماسية داخل القارة الافريقية.

الانتقال من الدبلوماسية التقليدية إلى الدبلوماسية الاقتصادية

لم يعد الحضور المغربي في إفريقيا رهينًا بالوسائل الدبلوماسية الكلاسيكية ،  بل شهدت العلاقة المغربية يافريقيا  تحولاً نوعياً منذ تولي الملك محمد السادس العرش، حيث أضحى التموضع يتم عبر آليات اقتصادية أكثر فعالية من الخطاب وحده. ما يُسمى اليوم “الدبلوماسية الاقتصادية” لا يقتصر على توقيع اتفاقيات، بل يُترجم إلى تواجد مؤسسي واستثماري في قطاعات حيوية، ما يُنتج رأس مال سياسي ومعنوي يُعزّز العلاقات الثنائية ويُرسّخ شبكة نفوذ مغربية عابرة للحدود ويتجلى ذلك في تعدد الاتفاقيات التجارية والمالية بين المغرب ودول إفريقية عدة، خاصة في مجالات الأبناك، البناء، والأسواق الزراعية والصناعية.هذا التوجه وضعت عليه المملكة لبنة في تصاعدها لتصبح، بحسب مؤسسات دولية مثل المؤسسة المالية الدولية (IFC)، من كبار المستثمرين الأفارقة، حيث أشار تقرير إلى أن المغرب بات من بين أكبر المستثمرين الأفارقة في القارة، مع تناقضات طفيفة في الترتيب حسب السنة ولكن مع تأكيد على تصاعد الوزن الاستثماري، خصوصاً في غرب إفريقيا.

بنية  تحتية استثمارية تربط المغرب بعمقه الافريقي

ان الاستثمار لا يكتمل دون بنية تحتية قوية تربط المغرب بعمقه الإفريقي . وضمن هذه الاستراتيجية، يولي المغرب أهمية كبرى لتطوير بنية تحتية متقدمة تجعل منه قاعدة خلفية مثالية للتوسع نحو القارة، حيث يُعد ميناء طنجة المتوسط، وشبكات الطرق والسكك الحديدية ( مخطط السكك الحديدية المغربي 2040) ومشروع  ميناء الداخلة الأطلسي  والمطارات، من أبرز أدوات الربط التجاري بين الشمال الإفريقي وعمقه الجنوبي. كما أن المبادرات الاستراتيجية مثل خط أنبوب الغاز نيجيريا-المغرب، تعكس رغبة الرباط في تموقع طويل الأمد داخل منظومة الأمن الطاقي الإفريقي. ضمن رؤية تحكمها موازين الاستدامة والتكامل.

حضور مؤسساتي في قلب القارة

يمثل التغلغل المؤسساتي للمغرب في إفريقيا أحد أعمدة استراتيجيته الاقتصادية طويلة المدى، حيث لم تكتف المملكة بتوقيع اتفاقيات أو مشاريع ظرفية، بل حرصت على ترسيخ وجود دائم وفعّال من خلال شركاتها العمومية والخاصة، التي وسّعت أنشطتها في قطاعات حيوية داخل عشرات الدول الإفريقية.

ففي القطاع المالي، يُعد المغرب من أبرز الفاعلين، حيث تنتشر فروع مجموعتي التجاري وفا بنك و**”البنك الشعبي المركزي”** في أكثر من 20 دولة إفريقية، مقدّمة خدمات مصرفية وتمويلات للمقاولات الصغرى والمتوسطة، ما ساهم في إدماج الملايين من المواطنين في النظام المالي الرسمي. كما ساعدت هذه المؤسسات في تمويل مشاريع البنية التحتية والصناعة والزراعة، مما منح المغرب نفوذًا ماليًا يعزّز حضوره السياسي والاقتصادي في آنٍ واحد.

وفي مجال الاتصالات، تملك اتصالات المغرب حصصًا مهمة في العديد من شركات الاتصالات الإفريقية، خاصة في غرب ووسط القارة، وهو ما يجعلها أحد الفاعلين الإقليميين في قطاع تنافسي واستراتيجي، يعكس التوسع المغربي عبر أدوات التكنولوجيا والخدمات الرقمية.

أما في القطاع الزراعي والصناعات المرتبطة بالأمن الغذائي، فقد رسّخت مجموعة OCP للفوسفات موقعها كمزود رئيسي لعدد من دول القارة بالأسمدة، بل أنشأت مصانع وأسست شراكات إنتاجية محلية، خاصة في نيجيريا وإثيوبيا، ما يمثّل تحولًا في دور المغرب من مصدر للمواد الخام إلى مستثمر في سلاسل القيمة الصناعية داخل إفريقيا نفسها.

هذا الانتشار لا يعكس فقط رغبة اقتصادية، بل يترجم رؤية استراتيجية تقوم على بناء “قوة ناعمة اقتصادية” مغربية، تعزز الحضور الرمزي والمؤسساتي للمملكة في القارة، وتؤسس لعلاقات أكثر استدامة، بعيدًا عن منطق المبادلات السطحية أو العلاقات الظرفية.

الرؤية الملكية: إفريقيا للأفارقة

ترتكز الاستراتيجية المغربية في القارة الإفريقية على رؤية ملكية متجذّرة، عبّر عنها الملك محمد السادس في مناسبات متعددة، تؤمن بأن “إفريقيا يجب أن تثق في قدراتها” وأنها قادرة، بإمكاناتها الذاتية، على تحقيق نهضتها بعيدًا عن التبعية. هذه الرؤية تدعو إلى إعادة تعريف علاقات القارة مع العالم ومع نفسها على أسس جديدة، قوامها التعاون بين دول الجنوب، وتحرير إرادة التنمية من منطق الهيمنة الاقتصادية أو التدخلات السياسية الخارجية. وبدلاً من التموقع في صراعات القوى الكبرى أو تكرار نماذج التبعية، يقترح المغرب نموذجًا تنمويًا تضامنيًا قائمًا على الشراكة رابح-رابح، يتجاوز النظرة التقليدية التي اختزلت إفريقيا في مورد للمواد الخام أو سوق استهلاكي. فالرؤية الملكية لا تكتفي بإدانة منطق “الاستعمار الجديد”، بل تسعى لتكريس منظور يضع الكرامة الإفريقية والتنمية المستدامة في صلب العلاقات الإقليمية والدولية، بما يجعل من المغرب شريكًا موثوقًا يسهم في بناء إفريقيا قوية، موحدة، وقادرة على الدفاع عن مصالحها الحيوية من موقع الندية والمسؤولية.

.

المغرب في إفريقيا : بين رهانات التنافس الدولي وتحديات الاستقرار الأمني

رغم ما حققته الاستراتيجية المغربية في إفريقيا من اختراقات نوعية، فإن هذا الحضور المتنامي لا يخلو من تحديات جدية، تفرض على الرباط قدراً أكبر من الحذر والمرونة في التعامل مع واقع إقليمي معقّد. فقد اشتدت المنافسة خلال السنوات الأخيرة بين قوى دولية كبرى، أبرزها الصين وروسيا وفرنسا والولايات المتحدة وتركيا، وكلها تسعى إلى تعزيز مواقعها في القارة الإفريقية عبر أدوات سياسية واقتصادية جديدة.

كما يشهد الفضاء الإفريقي عودة فاعلين إقليميين برؤى مغايرة، في ظل تصاعد التهديدات الأمنية، خصوصًا في منطقة الساحل، حيث تُمثل ظواهر الإرهاب والتمرد المسلح والجريمة المنظمة عوائق حقيقية أمام الاستقرار ومناخ الأعمال. وتمتد آثار هذه التحديات إلى مصالح المغرب المباشرة، مما يضع استراتيجيته الإفريقية أمام اختبار متواصل.

ومع ذلك، تواصل الرباط اعتماد مقاربة شمولية تدمج بين الحضور الاقتصادي والانخراط السياسي، وتراهن على الاستقرار والفعالية المؤسساتية كركائز لترسيخ مكانتها كشريك موثوق به. فالمغرب لا يكتفي بتوسيع استثماراته، بل يقدّم نفسه كفاعل ملتزم بالمساهمة في بناء بيئة إقليمية مستقرة، قادرة على احتضان التنمية المستدامة والشراكات طويلة الأمد.

خاتمة

شكلت الاستراتيجية المغربية في إفريقيا تحوّلًا عميقًا في رؤية المملكة لمجالها الحيوي، حيث لم تعد القارة فضاءً ثانويًا في السياسة الخارجية، بل أضحت امتدادًا مباشرًا للأمن القومي المغربي ومجالًا مفتوحًا لترجمة طموحات تنموية واقتصادية بعيدة المدى. فبفضل مقاربة شاملة تمزج بين الاستثمار، ومنطق الشراكة بدل الهيمنة او الوصاية ، والحضور المؤسساتي، والاستثمار في الثقة الافريقية ، استطاع المغرب إعادة تعريف دوره في إفريقيا من موقع الفاعل المحدود إلى موقع الشريك الاستراتيجي.

هذا التحول لا يُقاس فقط بحجم الاستثمارات أو عدد الاتفاقيات، بل يتجلى في ترسيخ نموذج جديد للعلاقات جنوب–جنوب، يقوم على مبادئ التضامن، والمنفعة المتبادلة، والاحترام المتبادل للسيادة بدون اجندة خفية . ووسط سباق دولي محموم على القارة، يقدّم المغرب نفسه كخيار ثالث، متحرر من منطق الهيمنة أو الاستغلال. إن ما تسعى إليه المملكة ليس فقط توسيع نفوذها، بل المساهمة في بناء إفريقيا قوية، متكاملة، قادرة على النهوض بذاتها واتخاذ قراراتها التنموية من موقع الندية والمسؤولية.

حول المؤلف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *