ذكرى المولد النبوي الشريف في المغرب.. احتفالات دينية واجتماعية ذات طابع خاص

محمد أعزوز (كاتب وصحفي مغربي)
تُعدّ ذكرى المولد النبوي الشريف مناسبة دينية عظيمة وحدثًا اجتماعيًا بارزًا في المملكة المغربية، حيث تمتزج فيها الروحانية العميقة بالتقاليد العريقة التي تعكس ارتباط المغاربة المتجذر بسيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، واتباعهم لسنته. تُحتفل بهذه المناسبة عادةً في يوم 12 ربيع الأول حسب التقويم الهجري، وتتخذ الاحتفالات في المملكة طابعًا خاصًا، يجمع بين الخشوع الديني والفرحة الشعبية، وكل ذلك تحت الرعاية السامية لأمير المؤمنين.
تُضفي الرعاية الملكية السامية على الاحتفالات طابعًا خاصًا ومكانة مرموقة. فبصفته أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، يحرص صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، سليل الدوحة النبوية الشريفة، على إحياء هذه الذكرى المباركة عبر طقوس رسمية ودينية. ومن أبرز هذه الطقوس تنظيم حفل ديني كبير، يُلقي فيه العلماء دروسًا دينية ويروون سيرة النبي العطرة، بحضور كبار المسؤولين ورجال الدولة والعلماء. كما يترأس جلالته الحفل الرسمي لتقديم الجوائز للفائزين في المسابقات الدينية، تقديرًا لجهودهم في خدمة القرآن الكريم والسنة النبوية. هذا الاحتفال يُعدّ تأكيدًا على استمرارية العهد العلوي الشريف في صيانة الموروث الديني والوطني، وترسيخ قيم المحبة والولاء للنبي الكريم.
تبدأ الاستعدادات للمولد النبوي قبل أيام من المناسبة، حيث تُجرى عمليات تنظيف شاملة للمنازل والمساجد والزوايا، استعدادًا لاستقبال الاحتفالات. تُولي الأسر المغربية اهتمامًا خاصًا بتحضير الحلويات التقليدية مثل “الكعك” و”الغريبة” و”الشباكية”، إلى جانب أطباق خاصة تُعدّ لهذه المناسبة، مثل الكسكس أو الطاجين في بعض المناطق. في الأسواق، تنتشر الملابس التقليدية كالجلباب والقفطان للأطفال والكبار، حيث يحرص المغاربة على ارتداء الزي التقليدي تعبيرًا عن الفرح والاحتفاء. كما يُستخدم البخور والعطور الطبيعية، مثل المسك والعنبر، لإضفاء جو روحاني مميز.
تُقام حلقات دينية في المساجد والزوايا تتضمن تلاوة القرآن الكريم، وإلقاء دروس دينية تروي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم. يبرز الإنشاد الصوفي كعنصر أساسي في الاحتفالات، حيث تُنشد قصائد المديح النبوي الشهيرة مثل “البردة” للإمام البوصيري، و”الهمزية”، و”المنفرجة”، بمصاحبة الأهازيج الدينية التي تضفي أجواء من البهجة والخشوع. في بعض المناطق، تُنظم حلقات الذكر التي تجمع بين المديح والأدعية، خاصة في الزوايا الصوفية.
في صباح يوم 12 ربيع الأول، تنطلق في بعض المدن والقرى المغربية مواكب الشموع التقليدية، حيث يحمل الأطفال والشباب الشموع المزينة ويجوبون الشوارع وسط الأهازيج والأناشيد الدينية. هذا التقليد متجذر بشكل خاص في مدن مثل فاس وسلا، حيث تُعتبر مواكب الشموع رمزًا للنور الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. كما تُقام في بعض المناطق احتفالات الختان للأطفال، حيث تُعدّ هذه المناسبة فرصة لتجديد العهد مع السنن النبوية.
تتميز مدينة طنجة باحتفالاتها الفريدة، خاصة في الأماكن ذات الطابع الروحاني مثل ضريح الولي الصالح سيدي بوعراقية، حيث تُنظم حلقات دينية رسمية بمشاركة السلطات المحلية والمواطنين. في أقاليم الجنوب، مثل العيون والداخلة، تتسم الاحتفالات بتنوع ثقافي يعكس التقاليد الصحراوية، حيث تُقام مواكب وأمسيات دينية تركز على الصلاة والدعاء. في مدن أخرى مثل مراكش وفاس، تُنظم فعاليات ثقافية ودينية تشمل محاضرات عن السيرة النبوية وعروضًا فنية تقليدية.
يحرص المغاربة خلال هذه المناسبة على تبادل التهاني والتبريكات، سواء عبر الزيارات العائلية أو الرسائل. تُعدّ “العيدية” تقليدًا شائعًا، حيث يُقدم الكبار هدايا مالية أو مادية للأطفال، مما يعزز من فرحة الاحتفال. كما تُشجع زيارة الأهل والجيران على تعزيز الروابط الاجتماعية، حيث تتحول المنازل إلى فضاءات للتواصل والتضامن.
يعود الاحتفال بالمولد النبوي في المغرب إلى عصور تاريخية قديمة، حيث كان له حضور بارز في عهد الدولتين المرينية والعلوية. خلال هذه الفترات، كان السلاطين يحتفلون بالمناسبة في القصور، مع تنظيم حلقات دينية وتوزيع الصدقات. هذا التقليد أسهم في ترسيخ المولد النبوي كجزء من الموروث الثقافي والديني المغربي، حيث استمر الإنشاد الصوفي والمديح النبوي كتعبير عن المحبة والإجلال للنبي صلى الله عليه وسلم.
تُجسّد ذكرى المولد النبوي الشريف في المغرب مزيجًا فريدًا من الروحانية والتراث الثقافي الغني. إنها ليست مجرد احتفال ديني، بل هي لحظة لتجديد العهد بالمحبة والولاء للرسول الكريم، وللتمسك بالقيم الدينية والاجتماعية التي تُعتبر أساس الهوية المغربية الأصيلة. كما تُؤكد هذه المناسبة على العلاقة المتينة بين العرش العلوي المجيد والشعب المغربي، وعلى دور أمير المؤمنين في صيانة الموروث الديني والوطني، وحماية الهوية المغربية التي تقوم على مبادئ التسامح والاعتدال والتضامن.
