عصر محمد السادس.. رابعا: الإنجاز الاقتصادي.. بنية تحتية، تصنيع، وتوسع أفريقي!!

King Mohammed 6 openning Tqngier Med

ربما كانت المنجزات الاقتصادية التي تحققت في عهد الملك محمد السادس، أبرز ما يمكن ملاحظته للخبير وغير الخبير، حتى وإن اختلفت زاوية النظر إلى هذه الإنجازات، حسب موقع المراقب والمحلل. وبما أننا بصدد جرد أبرز ملامح ما أسميناه “عصر محمد السادس”، لوضع ما يمكن اعتباره “المرتكزات الاستراتيجية لاستعادة مكانة المملكة الشريفة”، وبعد أن قدمنا في الحلقات الثلاث السابقة فلسفة الحكم، والتحصين الأمني، والسياسة والدبلوماسية، نأتي على محاولة رصد أبرز الإنجازات الاقتصادية، التي تستعصي على الحصر حقيقة، وسنقسمها بدورها إلى منجزات داخلية وخارجية.

مرة أخرى، وباستحضار الميزتين اللتين تميزان الملك محمد السادس: الشجاعة، والرؤية الاستشرافية، يمكن القول أن “خارطة الطريق” لإيصال المملكة المغربية إلى المكانة التي تتمتع بها اليوم، كان واضحا أنها ستمر عبر تمتين الوضع الاقتصادي الداخلي، قبل التوسع خارجيا في الفضاء الجيوستراتيجي للملكة: القارة الأفريقية. وهكذا، وبعد أن كان الاقتصاد المغربي مهددا “بالسكتة القلبية” بداية التسعينيات من القرن الماضي، راهن الملك محمد السادس على البناء على نقاط القوة الكامنة في هذا الاقتصاد، وتغيير وجهته كليا في مرحلة لاحقة. وهكذا، تم الرهان على تطوير البنية التحتية الأساسية، بالانطلاق من تمتين الأمن المائي والغذائي للمغاربة (سياسة السدود والفلاحة التي رعاها الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله)، بالمرور عبر تقوية شبكة الطرق السريعة، والانتقال سريعا إلى خلق بنية تحتية مينائية اعتبرها العاهل المغربي الخطوة الأولى الضرورية لجعل المغرب نقطة التقاء (Hub) قارتي أفريقيا وأوروبا، قبل التوسع آسيويا (مبادرة الحزام والطريق الصينية)، وأمريكيا (بقارتيها الشمالية والجنوبية). وكانت البداية مع تدشين أشغال بناء ميناء طنجة المتوسط الطموح في عام 2003، بالتزامن مع توقيع اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي في عام 2000، تليها أخرى مماثلة مع الولايات المتحدة في 2004، ومثلها مع تركيا في نفس السنة.

وقد أدرك الملك محمد السادس برؤيته الاستشرافية أن نقل الاقتصاد المغربي إلى مرحلة أرقى، لا بد أن يمر عبر تحويل المغرب من بلد مصدر للفوسفات الخام، والمنتجات الفلاحية والخدمات، إلى بلد مصنّع، يختص في المجالات ذات القيمة المضافة العالية. هذه النقلة حتمت تطوير الإنتاج الطاقي في المملكة بالمراهنة على الطاقات المتجددة (شكلت محطة نور للطاقة الشمسية الحرارية واسطة العقد في هذا المجال). ولم يغفل الملك محمد السادس “إقفال” دائرة النمو الاقتصادي بالاهتمام بتطوير اليد العاملة المغربية إلى مستوى محترف، وترقية القوانين الناظمة للاستثمار. وهكذا، بدأ طريق “الألف ميل” الذي أوصل المغرب اليوم إلى أن يصبح بلدا رائدا في محيطه الإقليمي والقاري في ميادين صناعة السيارات، الطائرات، الطاقات المتجددة (البطاريات الكهربائية)، الرقائق وأشباه الموصلات، الأسمدة، التعدين، الأدوية واللقاحات، وغيرها من المجالات الصناعية التي حفرت للمغرب اسما بين الكبار في جميع هذه الميادين. وبالتوازي مع ذلك، تم العمل على إحداث نقلة في القطاع البنكي، الاتصالات، التجهيز، التي مثلت لاحقا -كما سنرى- رأس الحربة في التوسع المغربي غرب وشرق ووسط وجنوب القارة الأفريقية.

وهكذا، وبعد الاطمئنان إلى متانة وضع الاقتصاد المغربي داخليا، وتحول المغرب إلى قبلة لكبريات الشركات المصنعة العالمية متعددة الجنسيات، حانت لحظة التحول إلى لاعب رئيس في القارة السمراء، باعتماد مبدئين في غاية البساطة والفعالية: التعاون جنوب- جنوب؛ وفق مقاربة “رابح- رابح”! وهكذا، وبدل اكتفاء المغرب بلعب دور “الوسيط” للقوى الاقتصادية الكبرى في مختلف مناطق القارة السمراء (فرنسا في الغرب الأفريقي على سبيل المثال)، عمل المغرب بشكل متدرج إلى أن يحل “بديلا” لهذه القوى، التي بدا واضحا أن “عصرها” في طور “الأفول”، بما يسمح للمغرب بملء الفراغ الذي ستخلفه. وعليه، وفي ظرف سنوات قليلة تحول المغرب إلى المستثمر الأول في غرب أفريقيا، وثاني أكبر مستثمر في القارة الأفريقية ككل، ونجح في صنع شراكات اقتصادية مع مختلف هذه الدول -حسب احتياجاتها- بمزيج اقتصادي تتظافر فيه جهود المؤسسات العمومية المغربية (المكتب الشريف للفوسفات كمثال)، والقطاع الخاص المحترف في ميادين البنوك، الاتصالات، الطيران، التجهيز، البناء والعقارات، وغيرها. هذا النموذج الناجح “لفاعل أفريقي” يفهم ثقافة القارة ويدرك حاجياتها بعمق، أهله لتكرار التجربة في وسط القارة، شرقها، وجنوبها الذي لطالما اعتبر “ساحة خلفية” لاقتصاد جنوب أفريقيا!

لقد شكلت الجولات المكوكية الملكية في أزيد من ثلاثين دولة أفريقية على امتداد جغرافيا القارة، رأس الحربة في حفر المكانة التي يتمتع بها المغرب حاليا على مستوى القارة. وقد شكل التحول من اقتصار التواجد المغربي الاقتصادي في الدول الناطقة بالفرنسية، إلى تلك الناطقة بالإنجليزية والبرتغالية، حدا فاصلا مكن المملكة الشريفة من التوسع في مختلف دول القارة. وهكذا، تواجدت المؤسسات المغربية في مختلف القطاعات الحيوية الأفريقية، والأهم، وفق نموذج جديد يقطع مع الممارسات التقليدية للقوى الاقتصادية العظمى، التي لم تستطع التخلص من “إرث علاقتها الاستعمارية” مع هذه الدول.

صحيح أن “دبلوماسية الأسمدة” كانت رأس الحربة في هذا التوسع، عبر المساهمة الفاعلة في تأمين “الأمن الغذائي” لدول القارة المهمة كنيجيريا وأثيوبيا وغانا ورواندا وكينيا وتنزانيا والكاميرون والسنغال وساحل العاج وغيرها، ببناء مصانع أسمدة ضخمة على أرض هذه الدول، بدل أن يقتصر دورها على استيراد هذه المادة الحيوية؛ لكن سرعان ما سجلت هذه الدول وغيرها تواجدا هاما لشركات المقاولات والبنوك وشركات الطاقة وغيرها، الأمر الذي جعلها تلمس بأيديها تجسيد المبدأ الملكي “تعاون جنوب- جنوب” وفق معادلة “رابح- رابح”، والأهم، دون أن يكون هذا التعاون مصبوغا بطابع أيديولوجي، أو أن يكون مشروطا باعتراف صريح بمغربية الصحراء، كما تنتهج الجزائر وجنوب أفريقيا وغيرهما. وكان أن أصبحت المقاولات المغربية العاملة في هذه الدول، ذات طابع “محلي” يعمل وفق أولويات هذه الدول، لتلبية احتياجاتها الخاصة الأكثر إلحاحا.

وهنا، لا نغفل المشاريع ذات الطابع الاستراتيجي من قبيل خط أنبوب الغاز النيجيري المغربي، الذي سيؤمن الطاقة لقرابة 13 دولة أفريقية؛ ناهيك عن مشروع ربط دول الساحل الحبيسة (تشاد، النيجر، مالي، وبوركينافاسو) بالمحيط الأطلسي عبر ميناء الداخلة، وهو ما سيحقق لهذه الدول نقلة اقتصادية جبارة ستبدأ أولى ثمارها في الظهور قبل نهاية العقد الحالي.

كخلاصة، فإن الفلسفة الملكية المغربية للنمو الاقتصادي لمجمل القارة الأفريقية، ترتكز على المساهمة في تأمين الأمن المائي والغذائي والطاقي والصحي والتعليمي، الخ، بشكل يستطيع مواطنو هذه الدول أن يلمسوا منافعه بعيدا عن الشعارات الأيديولوجية الفارغة، أو الارتهان لواقع كون هذه الدول مصدرا للمواد الخام، كما كانت خلال ازيد من قرن من الزمن! فلسفة ترسخ المكانة الرائدة للمغرب قاريا، وتقوي النسيج الاقتصادي المغربي محليا، وتحجز للملكة الشريفة مكانة بارزة بين “الكبار” عندما يتعلق الأمر بالنمو الاقتصادي في القارة السمراء!

حول المؤلف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *