علاقات المغرب وجنوب أفريقيا: بين رهانات التنافس الإقليمي وإمكانات التعاون

King Mohammed 6 and Mandela

تُشكّل دراسة العلاقات الثنائية بين الدول مدخلًا أساسيًا لفهم التحولات المعقدة في النظام الدولي، لا سيما في ظل ما يشهده العالم اليوم من إعادة تشكيل مستمرة للتحالفات وتغيرات جذرية في موازين القوى الاقتصادية والسياسية. وفي هذا السياق، تبرز العلاقات المغربية الجنوب إفريقية كنموذج يعكس ديناميات متعددة الأبعاد تجمع بين الاعتبارات السياسية، والاقتصادية، والاستراتيجية، فضلاً عن الأبعاد التاريخية التي لعبت دورًا محوريًا في تشكيل مسار هذه العلاقة. ويأتي تحليل هذه العلاقات في وقت يشهد فيه القارة الإفريقية تحديات متزايدة على الصعيد الأمني والاقتصادي، مما يستدعي البحث عن آليات تعاون وتفاهم بين الدول الكبرى داخل القارة. ومن خلال دراسة هذه العلاقة يمكن تعميق الفهم حول مواقف البلدين إزاء القضايا الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى إبراز عوامل التباين والتقارب التي تنعكس على طبيعة التعاون أو التنافس بينهما. كما تتيح هذه الدراسة رصد التطورات التي تشكل نماذج جديدة للعلاقات جنوب-جنوب، حيث تلعب هذه الديناميات دورًا متزايد الأهمية في إعادة رسم خريطة النفوذ داخل القارة الإفريقية. في النهاية، يسعى هذا البحث إلى تقديم رؤية شاملة حول آفاق التعاون المستقبلي بين المغرب وجنوب إفريقيا، في ظل التحديات العالمية والإقليمية التي تفرض على الدول الإفريقية ضرورة توحيد الجهود لمواجهتها بفعالية.

 

1ـ  الإطار التاريخي للعلاقات المغربية الجنوب إفريقية

دعم المغرب لحركات التحرر في إفريقيا: الخلفيات والسياقات التاريخية

تعود جذور العلاقات المغربية الجنوب إفريقية إلى فترة النضال ضد الاستعمار ونظام الفصل العنصري. فقد انخرط المغرب، منذ بدايات الاستقلال، في دعم حركات التحرر في القارة، بما في ذلك حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الذي كان يقود مقاومة الأبارتايد في جنوب إفريقيا. وتمثل هذا الدعم في توفير التكوين العسكري والسياسي لأطر الحزب، فضلاً عن الدعم المالي واللوجستي.

وقد كانت زيارة نيلسون مانديلا إلى المغرب سنة 1992، بعيد إطلاق سراحه من السجن، لحظة رمزية بالغة الدلالة، حيث حرص على شكر الملك الحسن الثاني على دعم المملكة المستمر لقضية شعبه. وآنذاك، كانت الآمال معقودة على بناء شراكة متينة بين البلدين، تجمع بين التاريخ المشترك والتطلعات الإفريقية الموحدة.

لا تقتصر جذور العلاقات المغربية ـ الجنوب إفريقية على السياق الحديث للقرن العشرين، بل تمتد عميقًا في التاريخ إلى حقبة ما يُعرف بإفريقيا الوسيطة، وتحديدًا إلى منطقة “غرب السودان” خلال الفترة الممتدة من القرن الحادي عشر إلى القرن السادس عشر. فقد شكلت هذه الروابط التاريخية والروحية أرضية خصبة للتفاعل الحضاري والتجاري بين شمال القارة وجنوبها. وفي هذا الإطار، يمكن فهم الدعم الذي قدمه المغرب لحركة التحرر في جنوب إفريقيا إبان حقبة الفصل العنصري، ليس كخيار دبلوماسي ظرفي، بل كامتداد طبيعي لمنظومة قيمية وتاريخية ضاربة في الجذور، تؤمن بالتحرر والتضامن الإفريقي.

لقد تشكّلت ملامح العلاقة بين المغرب وجنوب إفريقيا في سياق تاريخي طبعته حركات التحرر الوطني في القارة، حيث برز المغرب كأحد أبرز الداعمين لهذه الحركات، وعلى رأسها “حزب المؤتمر الوطني الإفريقي” (ANC)  خلال حقبة الاستعمار. فقد كانت الرباط من أوائل العواصم الإفريقية التي أبدت تضامنًا فعليًا مع نضال الشعوب الإفريقية ضد الأنظمة الاستعمارية والتمييز العنصري، إذ تشير وثائق تاريخية إلى احتضان المغرب لمقاتلي الحزب، وتوفير التدريب العسكري لهم، في إطار دعم سياسي وعسكري مباشر لزعيم الحزب نيلسون مانديلا ورفاقه. هذا الدعم لم يكن مجرد موقف ظرفي، بل تعبير عن التزام استراتيجي راسخ بروح التضامن الإفريقي، ما عزز من مكانة المغرب كشريك موثوق في معارك التحرر والاستقلال داخل القارة.

جذور القطيعة الدبلوماسية بسبب قضية الصحراء

بعد مرحلة أولى اتسمت بالتقارب الرمزي بين المغرب وجنوب إفريقيا، خاصة عقب زيارة نيلسون مانديلا للرباط سنة 1992 لشكر جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، تقديرًا للدعم السياسي والعسكري والمالي الذي قدمته المملكة لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي خلال سنوات النضال. وقد عُدّت تلك الزيارة مؤشرًا واعدًا لبداية مرحلة جديدة من التعاون بين بلدين يُعدّان من أهم الأقطاب الجيوسياسية في شمال وجنوب القارة الإفريقية. غير أن آفاق هذا التقارب لم تُترجم إلى شراكة استراتيجية مستدامة، إذ سرعان ما شاب العلاقات توتر سياسي ملحوظ، بلغ ذروته عقب قرار بريتوريا الاعتراف بـ”الجمهورية الصحراوية” المزعومة، وهو ما اعتبره المغرب انحيازًا غير مبرر لكيان لا يحظى باعتراف أممي، وموقفًا يُناقض مبدأ الحياد ويفتقر إلى التوازن. وقد ردت الرباط بتعليق علاقاتها الدبلوماسية مع بريتوريا، لتدخل العلاقات بين البلدين في حالة من الجمود السياسي والتوتر الدبلوماسي المستمر.

منذ ذلك التاريخ، تحولت جنوب إفريقيا إلى أحد أبرز الداعمين لأطروحة الانفصال في المحافل الإفريقية، مستندة إلى خلفية أيديولوجية مناهضة للاستعمار، دون مراعاة للتحولات التي عرفها ملف الصحراء المغربية على المستوى الدولي. وقد انعكس هذا التوتر على التنسيق الثنائي داخل المنظمات القارية، حيث تبنّت بريتوريا مواقف مناوئة للمغرب داخل الاتحاد الإفريقي، ما ساهم في تعميق الفجوة بين الطرفين.

ورغم عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي سنة 2017، ومحاولة إحداث اختراق في العلاقات من خلال لقاء الملك محمد السادس بالرئيس جاكوب زوما على هامش قمة أديس أبابا، فإن التقارب ظل محدودًا ولم يتطور إلى إعادة تطبيع كامل للعلاقات، مما يبرز استمرار تأثير الخلاف السياسي حول قضية الصحراء في تعطيل أي شراكة استراتيجية بين البلدين.

2ـ التنافس الدبلوماسي والتوجهات الجيوسياسية

يعكس التنافس المغربي–الجنوب إفريقي في إفريقيا اختلافًا في مقاربات النفوذ السياسي والدبلوماسي، حيث يعمد كل طرف إلى توظيف أدوات “الدبلوماسية الناعمة” لترسيخ حضوره القاري. ففي حين يعتمد  المغرب على رؤية شمولية ترتكز على التعاون جنوب–جنوب، وتفعيل شراكات تنموية قائمة على الاستثمار وتعزيز الروابط الثقافية والدينية، تراهن جنوب إفريقيا على رصيدها النضالي، وقوتها الاقتصادية، وموقعها التقليدي كفاعل بارز في تكتل “الجنوب العالمي”.

يتجسد هذا التنافس بشكل واضح داخل الاتحاد الإفريقي، حيث تساند جنوب إفريقيا الأطروحات المؤيدة لجبهة البوليساريو، بينما يعمل المغرب على ترسيخ مشروعية موقفه بشأن قضية الصحراء، بدعم متنامٍ من دول غرب ووسط القارة. كما يظهر التباين بين البلدين في مواقفهما من القضايا الدولية الكبرى، بما في ذلك العلاقات مع القوى الغربية، والتفاعل مع النفوذ الصيني والروسي، فضلًا عن اختلاف الرؤى الأمنية تجاه منطقة الساحل والصحراء.

التبادل الاقتصادي المغربي–الجنوب إفريقي بين التحديات والفرص

رغم التوترات السياسية، تُسجّل المبادلات الاقتصادية بين المغرب وجنوب إفريقيا مستويات معتبرة، إذ تُعد بريتوريا من الشركاء التجاريين المهمين للرباط في إفريقيا جنوب الصحراء. حيث بلغ حجم التبادل حوالي 1.4 مليار درهم سنة 2023، شمل أساسًا واردات مغربية من المواد الكيماوية والمعادن، وصادرات من الفوسفات والأسمدة. وفي 2024، سجل توازنًا في العلاقة التجارية، في ظل استمرار المغرب في استراتيجيته للتوسع الاقتصادي داخل القارة، رغم اختلاف المواقف السياسية بين البلدين. وتستورد المغرب كميات من الفحم والمعادن من جنوب إفريقيا، بينما تسعى شركات مغربية عاملة في قطاعات الاتصالات والبنوك والتأمين إلى اختراق السوق الجنوب إفريقية.

كما يُشكّل المجال الطاقي أحد أفق التعاون الواعدة بين البلدين، خاصة في ظل التحولات العالمية نحو الطاقة المتجددة، حيث يُمكن لكل من المغرب وجنوب إفريقيا أن يطوّرا مشاريع مشتركة في مجالات الهيدروجين الأخضر والطاقة الشمسية.

ومع ذلك، تبقى هذه الإمكانات رهينة بتحسّن المناخ السياسي، وإرساء قواعد شراكة قائمة على المصالح المشتركة لا على الخلفيات الأيديولوجية أو الاصطفافات الإقليمية.

التقارب الممكن: التحديات المشتركة وفرص التلاقي الاستراتيجي

إن استشراف مستقبل العلاقات المغربية الجنوب إفريقية يتطلب قراءة براغماتية للواقع الإفريقي الراهن، الذي يواجه تحديات جسيمة تتمثل في الفقر، وتغير المناخ، والتطرف العنيف، والهشاشة المؤسسية. هذه المعطيات تحتم على القوى الإقليمية الكبرى، من قبيل المغرب وجنوب إفريقيا، تبني استراتيجيات تعاون فعّالة بدلاً من استمرار التنافس العقيم الذي يعيق التنمية والاستقرار.

في هذا السياق، بدأت مؤشرات واضحة تظهر على تحول نسبي في موقف جنوب إفريقيا، لا سيما تجاه ملف الصحراء المغربية، حيث يلاحظ تراجعاً في حدة الخطاب الرسمي، وانضباطاً أكبر في المواقف الدبلوماسية، مقارنة بالعقدين الماضيين. يعود هذا التغير الجزئي إلى إدراك متزايد داخل النخب السياسية والاقتصادية الجنوب إفريقية لأهمية تعزيز التعاون مع المغرب، نظراً للدور المتنامي الذي يلعبه الأخير على المستويين الاقتصادي والمؤسساتي داخل القارة.

كما أن توسع النفوذ المغربي في المنظمات الإفريقية وبناء شراكات استراتيجية مع عدد من العواصم الإفريقية أجبر جنوب إفريقيا على إعادة تقييم جدوى التصعيد السياسي، خصوصاً في ظل الضغوط الاقتصادية الداخلية التي تواجهها بريتوريا وحاجتها إلى فتح قنوات اقتصادية مع شركاء جدد في شمال وغرب إفريقيا.

إن التطورات الأخيرة في ملف الصحراء، واتساع دعم الموقف المغربي داخل الاتحاد الإفريقي، يتيحان مجالاً لإعادة التموضع الدبلوماسي الجنوب إفريقي بما يحقق توازناً للعلاقات الثنائية ويُعزز فرص بناء شراكة إفريقية متينة، قوامها التكامل الاقتصادي والسياسي.

خاتمة

تعكس العلاقات المغربية الجنوب إفريقية تعقيدات المشهد الإفريقي الراهن، حيث تتقاطع المصالح الجيوسياسية مع الإرث التاريخي والخلافات الإيديولوجية. غير أن التحولات الجارية داخل القارة والعالم تفتح آفاقًا جديدة لإعادة بناء هذه العلاقة على أسس التعاون والشراكة. ويتطلب تجاوز هذه العقبات توفر إرادة سياسية حقيقية واستثمارًا مشتركًا يخدم قضايا التنمية والاستقرار، مع التأكيد على أن التنافس الإقليمي لا ينبغي أن يتحول إلى عائق أمام بناء إفريقيا متضامنة وقادرة على تعزيز مكانتها في النظام الدولي.

ويبقى تجاوز الخلافات بين البلدين رهينًا بحوار براغماتي يقوم على المصالح المشتركة، واحترام السيادة المغربية بعدم التدخل في شؤون الرباط الداخلية، وحماية وحدة المغرب الترابية. ويتطلب ذلك تخلي جنوب إفريقيا عن دعم حركة “بوليساريو”، التي تشكل عائقًا رئيسيًا أمام تحقيق توازن دبلوماسي مستدام. ويعتمد مستقبل العلاقات بشكل أساسي على إرادة سياسية ثنائية قادرة على استشراف التحولات الإقليمية بموضوعية، والالتزام بمصالح القارة في التنمية والاستقرار.

حول المؤلف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *