قصر الباهية… لؤلؤة مراكش ومرآة الفن المغربي الأصيل

في قلب مدينة مراكش العتيقة، حيث تمتزج رائحة التاريخ بعطر الأزهار المنبعثة من حدائقها الغنّاء، ينتصب قصر الباهية كتحفة معمارية شاهدة على براعة الصنّاع المغاربة وروعة الإبداع المغربي في أواخر القرن التاسع عشر. إنّه ليس مجرد بناء حجري مزخرف، بل لوحة حيّة تُجسّد عبقرية الفن المغربي وتاريخ المغرب الزاخر بالعظمة والرموز.
لمسة من التاريخ
يعود تشييد قصر الباهية إلى العهد العلوي في زمن الوزير الشهير أحمد بن موسى، المعروف بـ«با حمّاد»، أحد أبرز رجالات السلطان عبد العزيز. كان «با حماد» رجلاً ذا طموح واسع وذوق رفيع، فقرر بناء قصر يُجسّد فخامته وسلطته، فاستقدم أمهر الحرفيين والصنّاع من مختلف مدن المغرب، من فاس ومكناس إلى مراكش، ليعملوا على المشروع الكبير طيلة ست سنوات متواصلة.
لكن القدر لم يمهله ليرى تحفته مكتملة، إذ وافته المنية سنة 1900، قبل أن تكتمل الأشغال. ورغم ذلك، ظل القصر يُحاكي الأجيال اللاحقة بعمارته الفاتنة وزخارفه الدقيقة.
عمارة تُبهر البصر وتأسر القلب

يتكوّن القصر من عدة أجنحة وقاعات فسيحة وحدائق غنّاء تتخللها أحواض وصهاريج ماء تُضفي على المكان نسماتٍ من الهدوء والسكينة. ومن أشهر تلك الأحواض صهريج أكدال با حمّاد الذي يشكّل قلب الحديقة الرئيسية.
بعد وفاة الوزير، أصبح القصر مقصداً لكبار الشخصيات السياسية، فتردّد عليه المدني الكلاوي والتهامي الكلاوي، ثمّ استقر به المقري إلى حدود سنة 1912. ومع مجيء الحماية الفرنسية، تحوّل القصر إلى مقرّ لإقامة المقيم العام الفرنسي ليوطي الذي أضاف إليه لمسات عصرية مثل المدافئ ومكيّفات الهواء، دون أن تفقد البناية روحها الأصيلة.
تبلغ المساحة الأصلية للقصر حوالي 22 ألف متر مربع، غير أنها تقلّصت مع مرور الزمن بعد فصل بعض الحدائق الكبرى عنه. وما زال مدخله الجديد في حي الملاح شاهداً على التعديلات التي مستّ القصر في بدايات القرن العشرين.
الرياض الصغير… قلب القصر النابض

من بين أجنحة القصر الأكثر سحراً، يبرز الرياض الصغير الذي كان يشكّل ديوان الوزير «با حمّاد»، حيث كان يستقبل ضيوفه ويدير شؤون الدولة. يعكس تصميم هذا الجناح روح العمارة المغربية الأصيلة بتفاصيلها الدقيقة:
أروقة أنيقة تزيّنها أفاريز خشبية مطلية بألوان زاهية، أرضيات من الرخام والزليج الفاسي، وأحواض مائية تتوسطها نافورة تتلألأ تحت ضوء الشمس المراكشية.
وقد استخدم «ليوطي» هذا الفضاء بعد ذلك منزلاً ومكتباً، فظلّ شاهداً على تعاقب الأزمنة واختلاف العصور.
إلى جانب الرياض الصغير، تتوزع الساحات الكبرى مثل ساحة الرخام التي تُعدّ من أوسع فضاءات القصر، وتحيط بها 52 عموداً خشبياً مذهلاً في دقته وزخرفته. وتُستخدم اليوم لإقامة الحفلات الموسيقية والمعارض الفنية، في انسجام بين عبق التاريخ وروح الفن الحديث.

أما القاعة الشمالية فهي تحفة فنية قائمة بذاتها، جدرانها مكسوة بالزليج المغربي الأصيل، ونوافذها تطل على حديقة أندلسية دائمة الاخضرار. ويعلوها سقف خشبي بزخارف ذات طابع إيطالي فريد، في مزيج نادر بين الشرق والغرب يختزل روح الانفتاح الفني الذي عرفته مراكش آنذاك.
الرياض الكبير وجناح النبلاء
ومن الساحة الشرفية الواسعة، يتّجه الزائر نحو الرياض الكبير عبر ردهة منقوشة ومزخرفة تدهش الأبصار. في هذا الجناح المهيب نجد القاعة الكبرى الشمالية التي تحمل أبياتاً شعرية منقوشة على الجبس تؤرّخ لبنائه، بينما تحتضن القاعة الجنوبية زخارف وأسقفاً تعبّر عن مراحل تطور العمارة في القصر.
أما جناح الزوجة النبيلة، فيضم صحنًا مغلقاً وسقفاً خشبياً رائعاً، وتحيط به قاعتان بهوان متقابلان، ما يمنحه طابعاً من الخصوصية والرقيّ.
كل زاوية في قصر الباهية تروي حكاية… فالأبواب والنوافذ تفيض بنقوش نباتية وأزهار محفورة بعناية فائقة، في ما يُعرف بـ«فن التشجير»، وهو من أرقى فنون الزخرفة المغربية التي تمزج بين الهندسة والرمزية الجمالية.

من قصر سياسي إلى مزار سياحي عالمي
تحوّل قصر الباهية اليوم إلى واحد من أبرز المزارات السياحية في مراكش، حيث يتوافد إليه آلاف الزوار يومياً من مختلف أنحاء العالم لاكتشاف أسرار العمارة المغربية التقليدية.
وقد صنّف القصر كـ معلمة تاريخية وطنية لما يمثّله من قيمة فنية وتاريخية استثنائية.
ويُذكر أن تصميم القصر أشرف عليه المهندس المغربي محمد بن المكي المسيوي، الذي تلقّى فنون النقش على الخشب في مكناس وفن الجبس في فاس، بإشراف من الضابط الفرنسي «أركمان» قبل فترة الحماية.
أما البدايات الأولى لبناء القصر، فكانت على يد الحاجب الملكي موسى بن أحمد البخاري، الذي شيّد الرياض الكبير والساحة الشمالية سنة 1886. وبعد وفاته، واصل ابنه «با حمّاد» تشييد القصر، فجمع بين أكثر من ستين منزلاً ليصنع منها تحفةً معمارية فريدة تُجسّد قمة الإبداع المغربي في أواخر القرن التاسع عشر.
تحفة خالدة
اليوم، يُعتبر قصر الباهية رمزاً لتاريخ المغرب الغني وتنوّع حضاراته. فهو يجمع بين عبق الماضي وروح الحاضر، وبين الزخارف الأندلسية واللمسات المغربية الأصيلة، ليظل شاهداً على عبقرية الإنسان المغربي وقدرته على تحويل الحجر والخشب إلى فن خالد.
وعندما تخطو داخل أروقته المضيئة وتستمع إلى صدى الخطوات بين جدرانه المكسوّة بالزليج، تدرك أنك لست في مجرد قصر، بل في رحلة زمنية تعبر قروناً من الجمال والهيبة والخلود.