“كناوة”.. إيقاع الروح الأفريقية في قلب المغرب

في زوايا مدن المغرب العتيقة، وعلى طول سواحلها الهادئة، يصدح إيقاع عميق يحمل في طياته صدى تاريخ طويل من المعاناة والأمل، إنه إيقاع “كناوة”. ليس مجرد فن موسيقي، بل هو رحلة روحية وثقافية تمتد جذورها في عمق القارة السمراء لتزهر في تربة المغرب، وتتجاوز حدودها لتلامس قلوب الملايين حول العالم.
من أدغال أفريقيا إلى سهول المغرب
تعتبر أصول كناوة قصة مهاجرين ومستعبدين من مناطق جنوب الصحراء الكبرى، مثل مالي والسنغال ونيجيريا وغانا. جُلِبوا إلى المغرب في القرون الماضية، حاملين معهم إرثهم الروحي والثقافي الغني، وطقوسهم الشفائية المبنية على الإيقاع والإنشاد. في المغرب، اندمج هؤلاء المهاجرون مع المجتمع، لكنهم حافظوا على خصوصية طقوسهم التي أصبحت تُعرف لاحقاً بـ “كناوة”. هذا الدمج الثقافي الفريد هو ما منح كناوة طابعه المميز، حيث امتزجت الروحانية الأفريقية الصوفية بالهوية المغربية.
طقوس “الليل” و “الدردبة”: رحلة إلى عالم الأرواح
تكمن خصوصية فن كناوة في طقوسه التي تتجاوز مجرد العرض الفني، لتصل إلى مستوى الروحانيات الصوفية. أبرز هذه الطقوس هي “الليلة” أو “الدردبة”، وهي احتفالية تمتد لساعات طويلة، وأحيانًا لليلة كاملة. تبدأ الطقوس بـ “الكديرة” أو “العادة”، وهو إيقاع هادئ يمهد للجو الروحاني. ثم تتصاعد وتيرة الإيقاعات والإنشاد، وتتغير الألوان والأزياء (كل لون يرمز إلى روح معينة أو “ملوك الجان”)، وتصل إلى ذروتها بما يعرف بـ “الفرجة” أو “الحضرة”. في هذه المرحلة، يدخل بعض الحاضرين في حالات من الجذب الروحي (الجذبة) على أنغام الموسيقى.
الهدف من هذه الطقوس هو تحقيق الشفاء الروحي والنفسي، وتخليص الأفراد من الأمراض والأوجاع التي يُعتقد أنها ناتجة عن تسلط الأرواح. “المعلّم“ (شيخ الطائفة) هو القائد الروحي والفني لهذه الليلة، يوجه الفرقة والحاضرين في هذه الرحلة الروحية العميقة.

الصويرة: عاصمة كناوة العالمية
لا يمكن الحديث عن كناوة دون ذكر مدينة الصويرة. هذه المدينة الساحلية الهادئة لم تكن مجرد حاضنة لهذا الفن، بل هي منبع شهرته العالمية. بفضل موقعها كمركز تجاري، وكونها ملتقى للحضارات، أصبحت الصويرة أرضًا خصبة لانتشار كناوة وتطوره. “مهرجان كناوة وموسيقى العالم” الذي تحتضنه الصويرة سنوياً منذ عام 1998، كان النقطة الفاصلة في تاريخ هذا الفن. المهرجان نجح في استقطاب فنانين عالميين من مختلف الأجناس الموسيقية، مما سمح بدمج كناوة مع موسيقى الجاز، والبلوز، والروك، والريغي، ليكتسب جمهوراً أوسع وشهرة عالمية.
ثلاثة أعمدة لا يُذكر كناوة إلا بهم
عندما نتحدث عن مبدعي كناوة، تبرز أسماء لم تكتفِ بالحفاظ على التراث، بل عملت على تجديده وإيصاله إلى آفاق جديدة.

- المعلم محمود غينيا: أيقونة كناوة بلا منازع. صوته العميق وأدائه القوي على آلة الهجهوج جعله رمزاً لهذا الفن. تعاون مع فنانين عالميين مثل بيل لاسويل وفيل فلانار، وشارك في العديد من المهرجانات العالمية، مما ساهم في تعريف العالم بموسيقى كناوة الأصيلة.
- المعلم حميدة بوسو: شخصية فنية وكاريزمية فريدة، عُرف بكونه معلمًا للأجيال الجديدة من الكناويين. أداؤه الحماسي وشغفه بالموسيقى جعل منه مرجعاً أساسياً في هذا الفن.
- المعلم حسن حاكور (حسن بلمنجار): من أبرز المعلمين الذين استطاعوا بأسلوبه المميز أن يجمع بين الأصالة والتجديد، وشارك في إيصال هذا الفن إلى العالمية عبر العديد من الجولات الفنية.
سر العالمية: الهجهوج و”القراقش” والإيقاع
ما الذي يجعل كناوة فنًا فريدًا لدرجة أن يتجاوز حدود الثقافة المغربية ويصل إلى العالمية؟
يكمن السر في موسيقى كناوة التي تتميز بخصوصية فريدة. إنها موسيقى تعتمد على الإيقاع بشكل أساسي، وتتألف من ثلاث آلات رئيسية:
- الهجهوج (السنتر): آلة وترية ثلاثية الأوتار، يُطلق عليها أحيانًا اسم “الكنترة”. هي روح موسيقى كناوة. يعزف عليها “المعلم” ويوجه بها الإيقاع. صوتها العميق يعكس صوت “القلب النابض” لأفريقيا.
- القراقش (القرعات): آلتان حديديتان شبيهتان بالصنج، يضرب بهما العازف على بعضهما البعض ليصدرا إيقاعًا متصلاً وقويًا، مما يمثل “ضربات القلب” التي تحرك الروح والجسد.
- الطبول (الطبل): تُستخدم لإضافة عمق أكبر للإيقاع، وتعتبر أساساً في بعض الطقوس.
الإيقاعات المتكررة والممتدة في كناوة، هي ما يخلق حالة من “التنويم” والإغواء الروحي، ويجعل المستمع يفقد إحساسه بالوقت. وهذا ما جذب إليه موسيقيين من مختلف المشارب الفنية، الذين وجدوا في هذه الإيقاعات مادة خاماً ثرية للتجريب والدمج. كما أن المواضيع التي يتناولها إنشاد كناوة، من قصص العبيد ومعاناتهم، إلى مدح الصالحين وطلب الشفاء، تحمل رسائل إنسانية عميقة تتجاوز الحواجز اللغوية والثقافية.
في الختام، إن فن كناوة ليس مجرد تراث مغربي، بل هو شهادة حية على التلاقح الحضاري، وقدرة الفن على أن يكون جسرًا بين الثقافات، ومرآة تعكس صدى الروح الإنسانية الخالدة.