ما بين المغرب ولبنان: الأرز.. شجرة واحدة، وحكايتان مختلفتان

في عالم الأشجار، هناك أنواع لا تُعد مجرد نباتات، بل رموزًا ثقافية وتراثية لأمم وشعوب. وفي حوض البحر الأبيض المتوسط، تبرز شجرتا الأرز، إحداهما في المغرب والأخرى في لبنان، كشاهدتين على التاريخ وكنوزًا طبيعية تستحق الاحتفاء. وعلى الرغم من انتمائهما إلى عائلة واحدة، إلا أن لكل منهما قصة مختلفة وأرقامًا تُعيد صياغة هذه الحكاية.
الأرقام تحكي القصة: أرز المغرب الأطلسي
توجد شجرة الأرز الأطلسي في المغرب منذ ملايين السنين. استخدم خشبها عالي الجودة في بناء القصور والمساجد وصناعة الأثاث الفاخر في العصور الرومانية والإسلامية. شهدت هذه الغابات فترات من الاستغلال المفرط، لكن الجهود المبذولة للحفاظ عليها أبقتها جزءاً أساسياً من المشهد الطبيعي المغربي.
وهكذا، يُعد المغرب موطنًا لأكبر غابات الأرز الأطلسي على مستوى المنطقة. تُقدر المساحة المزروعة بهذه الأشجار بحوالي 134 ألف هكتار. هذه المساحة الشاسعة تُعادل مساحة عدة مدن مجتمعة، وتجعل من المغرب قوة بيئية في هذا المجال. أما عن عدد الأشجار، فبالرغم من عدم وجود إحصاء دقيق، إلا أن التقديرات تشير إلى وجود ما بين 13 و 27 مليون شجرة أرز، مما يُظهر كثافة هذه الغابات وأهميتها البيئية في جبال الأطلس المتوسط.

ومن بين هذه الملايين، تبرز شجرة واحدة تُدعى شجرة “غورو“، التي تُعد أيقونة هذه الغابات، وسميت على اسم مكتشفها الجنرال “هنري غورو”، الذي اكتشفها خلال احتلال فرنسا للمنطقة. هذه الشجرة ليست مجرد رقم في الإحصاءات، بل هي أقدم شجرة أرز في أفريقيا، بعمر يُقدر بأكثر من 800 سنة، وارتفاع يبلغ 45 متراً. تُعتبر هذه الغابات رئة المغرب، حيث تنقي الهواء وتحافظ على التنوع البيولوجي، وتوفر موطناً لقرد المكاك البربري. هذه الأرقام تُعطي الشجرة مكانة خاصة كشاهد صامت على تاريخ المنطقة.
الأرز اللبناني: رمز الخلود
على الضفة الأخرى من المتوسط، يقف الأرز اللبناني شامخًا، ليس بمساحته الواسعة، بل بتاريخه ورمزيته. فالمساحة الإجمالية لغابات الأرز في لبنان لا تتجاوز 600 هكتار، وهي مساحة متواضعة بالمقارنة مع المغرب. ومع ذلك، فإن هذه الغابات الصغيرة تحمل قيمة هائلة.
يتركز الأرز اللبناني في ثلاث مناطق (محميات)، أهمها:
- محمية أرز الشوف الطبيعية: تُعد أكبر محمية طبيعية في لبنان، وتغطي مساحة واسعة من جبل الشوف.
- محمية أرز تنورين الطبيعية: تبلغ مساحتها حوالي 600 هكتار، وتضم حوالي 1.5 مليون شجرة أرز.
- غابة أرز الرب: تقع في منطقة بشرّي، وتشتهر بأشجارها المعمرة التي يعود تاريخ بعضها إلى آلاف السنين.
وتتركز أهمية الأرز اللبناني في غابة “أرز الرب“، التي تضم أقدم أشجار الأرز في العالم، والتي يُقدر عمرها بالآلاف السنين. هذه الأشجار، التي لا تُعد بالملايين، هي جزء من هوية لبنان وتاريخه، حيث استخدم الفينيقيون أخشابها لبناء سفنهم، وحجزت لنفسها مكانًا في العلم اللبناني كرمز للقوة والخلود.
الفروقات بين الأرز الأطلسي والأرز اللبناني
هناك فروقات واضحة بين الأرز الأطلسي (Cedrus atlantica) وأرز لبنان (Cedrus libani):
* المنطقة الجغرافية: الأرز الأطلسي يوجد في شمال إفريقيا، بينما أرز لبنان يوجد في الشرق الأوسط.
* المظهر الخارجي: تاج أرز لبنان مسطح مع التقدم في العمر، على عكس الأرز الأطلسي.
* لون الأوراق: أوراق الأرز الأطلسي تميل إلى اللون الأخضر المزرق، بينما أوراق أرز لبنان خضراء داكنة.
* المقاومة: الأرز الأطلسي أكثر مقاومة للجفاف والظروف القاسية.
خلاصة الحكاية
في النهاية، يُمكن القول إن المقارنة بين الأرز المغربي واللبناني ليست مقارنة في الأفضلية، بل هي مقارنة في الخصوصية. فالمغرب يُقدم الأرز في بعده البيئي والكمي، حيث تُشكل غاباته مساحات شاسعة تُساهم في التوازن البيئي الإقليمي. أما لبنان، فيُقدم الأرز في بعده التاريخي والرمزي، حيث تُعد أشجاره القليلة ذات قيمة تاريخية وروحية لا تُقدر بثمن، وتُجسد رمزية وطنية خالدة. كلاهما كنز طبيعي، ولكن بقصص وأرقام مختلفة.