هل يلتقط النظام الجزائري “طوق النجاة” الذي ألقاه الملك محمد السادس إليه؟!

تشكل مناسبة عيد العرش سنويا، فرصة للتواصل بين الملك محمد السادس ومواطنيه، في إطار ما يجمعهما من بيعة تطوق عنق المغاربة، وعهد ملكي لرعاية مصالح أبنائه بالمقابل. هذه العلاقة التي يسهر الجانبان على صونها ورعايتها وترقيتها، تميز النظام الملكي في المغرب عن باقي الأنظمة في محيطه الإقليمي والقاري، والتي تمارس فيه السلطة علاقة “فوقية” مع الشعب باتجاه واحد. وهكذا، حمل خطاب العرش -كعادته- مراجعة لإنجازات العام الذي مضى، وجردا للتحديات الماثلة خلال العام الذي نستقبله. هذا الأمر وجد ترجمته في تأكيد الملك على أهمية ما تم تحقيقه من إنجازات اقتصادية، لاسيما على الصعيد الصناعي في شتى المجالات، دون أن يغفل وجود فوارق في استفادة المناطق المختلفة من فوائد هذا النمو، لاسيما في العالم القروي، بسبب النقص الحاصل في البنيات التحتية، واضعا أمام المسؤولين عن إدارة الشأن العام تحذيرا يتمثل في شعار حاسم: “لا مكان اليوم ولا غدا، لمغرب يسير بسرعتين”! رسالة ربما كانت أهم ما تلقفه مختلف المسؤولين في كافة مواقع المسؤولية، للعمل على تنزيله على أرض الواقع من أجل جسر الفجوة المجالية في مغرب محمد السادس.
لكن ما بدا لافتا في الخطاب الملكي، إفراده مساحة هامة للحديث عن العلاقة مع الجار الجزائري “الشقيق”، مؤكدا بما لا يترك مجالا للتشكيك أو التأويل، بصفته ملك المغرب ورأس السلطة فيها أن “الشعب الجزائري شعب شقيق، تجمعه بالشعب المغربي علاقات إنسانية وتاريخية عريقة، وتربطهما أواصر اللغة والدين، والجغرافيا والمصير المشترك”؛ مذكرا بحرصه الدائم على مد اليد للأشقاء الجزائريين، ودعوته ل “حوار صريح ومسؤول؛ حوار أخوي وصادق، حول مختلف القضايا العالقة بين البلدين”. وشدد العاهل المغربي على أن هذا الحرص على بقاء اليد المغربية ممدودة لأشقائهم الجزائريين نابع من إيمان جلالته بوحدة شعوب المنطقة، وقدرة البلدين على تجاوز هذا الخلل في العلاقة المستمر منذ عقود طويلة دون مبرر معقول.
وهنا، نتوقف قليلا لنحاول فهم منطق السلطات الجزائرية في استمرار اعتماد العداء للمغرب كسياسة ثابتة للنظام، ونتساءل: أيهما يحقق مصلحة النظام نفسه (قبل الحديث عن مصلحة الشعب الجزائري)، العداء للمغرب أم تلقف يده الممدودة، والجلوس إلى طاولة التفاهم لبحث ما بينهما من مشاكل حقيقية، إن وجدت!!
يعلم القاصي والداني أن النظام الجزائري “يغرق” حرفيا في بحر من المشاكل الهيكلية التي يمكن اعتبارها فواتير متراكمة منذ عهد الرئيس بومدين. مشاكل معظمها داخلي يتعلق ببنية النظام، وتركيبة قواه، وطبيعة اقتصاده، وغيرها، مع جملة من الأزمات التي تكاد تعصف بعلاقة الجزائر مع دول محيطها كاملة (المغرب، مالي، النيجر، ليبيا، موريتانيا، ونسبيا تونس). ويدرك من هم في موقع القرار في النظام الجزائري -أكثر من غيرهم- أن حلحلة الملفات العالقة مع المغرب، وعلى رأسها ملف النزاع حول وحدته الترابية، سيضمن له فائدة مزدوجة: حلحلة المشاكل الاقتصادية الداخلية، بربط الاقتصادين وتبادل المنافع بينهما، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى حلحلة الازمات مع دول الجوار الأخرى التي يحتفظ معظمها بعلاقات مثالية مع المغرب. كما يدرك أصحاب القرار في الجزائر، أن النزاع المفتعل حول مغربية الصحراء قد انتهى وتم إعلان وفاة مشروع الانفصال، وينتظر أن يعلن عن موعد التشييع والجنازة خلال شهرين، وبالتالي فإن النأي بالنفس -على صعوبته- عن حضور تشييع الجنازة، بالتقاط اليد الممدودة من الملك محمد السادس، يضمن أفضل خروج ممكن من هذه الورطة، بعد أن أصبح من سابع المستحيلات أن يتمكن حكام الجزائر من عكس مسار الاعتراف الدولي بمغربية الصحراء.
ضربة “المعلم” التي حملها خطاب الملك محمد السادس، اكتملت بتوجيهه رسالة مزدوجة إلى القيادة الجزائرية وربيبتها جبهة البوليساريو معا، تشكل توضيحا أكبر لهدف المغرب من مد يده لجاره الجزائري، عندما أكد حرصه على “إيجاد حل توافقي، لا غالب فيه ولا مغلوب، يحفظ ماء وجه جميع الأطراف”، وهي العبارة التي لا تحتمل التأويل، لعدم رغبة المغرب في ممارسة “التبجح” بانتصاره في قضية مغربية الصحراء، وهي الحقيقة المنسجمة مع الشخصية المغربية تاريخيا، إدراكا منه بأن ذلك السلوك -البعيد عن أخلاق المغاربة- يعقّد من جهة الوصول إلى تفاهم بين البلدين، ويؤسس من جهة أخرى لاستمرار حالة العداء بينهما بأشكال متجددة.
حديث العاهل المغربي عن حل توافقي، يأتي من موقع القوة المتسامحة، كون نزاع الصحراء قد حسم نهائيا، ولم يعد المغرب بحاجة لاعتراف أو تعاون الجزائر أو البوليساريو من أجل إقفال الملف، لكنها حكمة ملك يمتلك رؤية استشرافية للمستقبل، يبحث عن تأمين علاقة المغاربة وأشقاءهم الجزائريين لعقود قادمة. إن حديث الملك محمد السادس عن التوافق، هو في حقيقته تعبير عن حرص جلالته على عدم خلق “عقدة حرب رمال” جديدة، ترهن مستقبل الأجيال القادمة في البلدين لشبح التوتر والعداء الدائمين، وتفكك من طريق تحسين علاقتهما، آخر الألغام الموروثة عن حرب الرمال الأولى!!
كخلاصة، فإن دعوة الملك محمد السادس “للأشقاء في الجزائر” لحوار صريح ومسؤول، يسهم في تجاوز الواقع المؤسف بينهما على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، هي في حقيقتها تتجاوز مد اليد لخصم طلبا لإنهاء الخصومة، وتكاد ترقى إلى مرتبة مد “طوق النجاة” لخصم وقع على الحلبة منهكا لا يقوى على الوقوف، من جراء الضربات التي تلقاها، طلبا لحفظ ماء وجهه المترتب على خسارة المباراة. إنها تعبير صادق عن الرغبة في مساعدة خصمه على الوقوف ورفع أيديهما معا، معلنين انتهاء النزال دون الإعلان عن فوز أحدهما، لأنه في نهاية المطاف.. شقيقه!! لقد آثر الملك محمد السادس بشجاعته ورؤيته الاستشرافية، أن يتنازل عن المجد الشخصي المترتب على حسم معركة وحدته الترابية، بإعلان انتصار ساحق على خصمه الجزائري الذي ناصبه العداء على مدى نصف القرن الماضي، مفضلا الانحياز لمستقبل التعايش بين الشقيقين المغربي والجزائري، شركاء التاريخ والدم والنضال.
باختصار، لقد اختار الملك محمد السادس تغليب تراث أخوة تمتد لقرون، على حساب عداء عمره خمسة عقود!!