“ورزازات”.. من مسرح المقاومة إلى سينما العالم

لا ينظر إلى مدينة “ورزازات” على أنها مجرد نقطة على خريطة السياحة المغربية، بل هي لوحة فنية طبيعية تروي قصصًا عن جمال الطبيعة، وإرث تاريخي عريق، وبصمة سينمائية خالدة. تقع هذه المدينة في الجنوب الشرقي للمملكة المغربية، عند حافة الصحراء الكبرى، لتحتضن بين ربوعها تناقضات جغرافية ساحرة، وقلاعًا شامخة تحكي أسرار الماضي، واستوديوهات سينمائية جعلتها تستحق لقب “عاصمة السينما في إفريقيا والعالم العربي”.
بوابة الصحراء وجنة الواحات
تتمتع ورزازات بموقع استراتيجي فريد، فهي تقع عند ملتقى وادي درعة من الجنوب ووادي دادس من الشمال، مما جعلها تاريخيًا نقطة انطلاق القوافل التجارية المتجهة نحو إفريقيا جنوب الصحراء. تطل المدينة على بحيرة المنصور الذهبي الاصطناعية، التي تشكل لوحة مائية زرقاء في قلب الأرض القاحلة، وتوفر مصدرًا حيويًا للري والطاقة الكهرومائية.
طبيعتها هي عبارة عن سهل شاسع (سهل سوس) تحيط به سلاسل جبلية مذهلة، أهمها جبل الأطلس الكبير الذي تكلله الثلوج في فصل الشتاء، ليوفر مشهدًا أخاذًا يتناقض مع دفء الصحراء المجاورة. هذه البيئة المتنوعة – الجبال، الأودية، الواحات الخضراء (مثل واحة فم زكيد)، والصحراء – هي التي منحتها ذلك الجمال الخام الذي جذب صناع السينما من حول العالم.
شمس سينمائية دافئة
مناخ ورزازات قاري وجاف في معظم أوقات السنة، يتميز بـ:
- صيف حار: حيث ترتفع درجات الحرارة بشكل ملحوظ، لكن حرارة الجو تكون قابلة للتحمل بسبب الهواء الجاف.
- شتاء بارد إلى معتدل: ليالٍ باردة قد تصل درجة الحرارة فيها إلى الصفر، بينما تكون الأيام مشمسة ودافئة في الغالب.
- قلة التساقطات المطرية: تتميز بعدد كبير من الأيام المشمسة على مدار السنة (أكثر من 300 يوم مشمس)، وهي ميزة ذهبية لصناعة السينما، تضمن جدولة التصوير دون خوف من تقلبات الطقس.
قصبات من الطين تحكي تاريخًا من الصمود

أبرز ما يميز هندسة ورزازات العمرانية هو القصبات، وهي قلاع أو قصور محصنة مشيدة من الطين والحجر والخشب. فرادة هذه القصبات ليست في جمالها المبهر فحسب، بل في معمارها الذكي أيضا، والذي يتكيف مع البيئة القاسية:
- المواد المحلية: استخدام الطين (اللبن والطابية) يوفر عزلًا حراريًا ممتازًا، حارًا كان الجو أو باردًا.
- التصميم الدفاعي: تتميز بجدرانها العالية السميكة، وأبراجها المرتفعة، وشبكة أزقتها الضيقة المتشابكة التي تصعب عملية الغزو.
- الفن الزخرفي: من الداخل، تزين الجدران بنقوش وزخارف جصية (جبص) وأعمال خشبية محفورة تعكس براعة الحرفيين المحليين.
- القصبات الشهيرة: أشهرها على الإطلاق قصبة آيت بن حدو (المصنفة تراثًا عالميًا من قبل اليونيسكو)، والتي تعد نموذجًا كاملًا للعمارة الجنوبية المغربية. بالإضافة إلى قصبة تاوريرت في قلب مدينة ورزازات، والتي كانت المقر القديم لباشا المدينة.
معقل الصمود ضد المستعمر
لم تكن ورزازات فقط جوهرة الجنوب، بل كانت أيضًا معقلًا من معاقل المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي. كانت المنطقة بمثابة حاضنة للعديد من القبائل الأمازيغية التي قادت مقاومة شرسة. تميزت مقاومتها بـ:

- المقاومة المنظمة: قادها زعماء محليون أشهرهم عسو أوبسلام، الذي أصبح أيقونة للمقاومة الشعبية. استطاع أن يوحد القبائل في وجه التقدم الفرنسي.
- معارك ضارية: دارت رحى العديد من المعارك في ممرات ومضايق جبال الأطلس المحيطة، حيث استفاد المقاومون من معرفتهم التضاريسية العميقة لمواجهة الجيش النظامي الفرنسي.
- صمود القصبات: استخدمت القصبات كحصون منيعة للمقاومة، حيث صمدت لوقت طويل أمام الهجمات، إلى أن تمكن الاستعمار من إخضاع المنطقة بشكل كامل في ثلاثينيات القرن الماضي بعد استخدامه للطيران في القصف.
عاصمة السينما: هوليوود إفريقيا
هذا هو اللقب الذي التصق بورزازات، وجعلها وجهة عالمية. بدأت القصة في أوائل الستينيات عندما اختار المخرج البريطاني ديفيد لين منطقة آيت بن حدو لتصوير فيلمه الملحمي “لورنس العرب” (1962). منذ تلك اللحظة، انفتحت أبواب المدينة على عالم السينما.
أسباب تحولها إلى عاصمة سينمائية:
- التنوع الجغرافي المذهل: تقدم ورزازات في مساحة قريبة مشاهد طبيعية تناسب أفلامًا من عصور مختلفة: صحاري، جبال، واحات، أنهار جافة (اقطاعات)، ومساحات شاسعة تشبه سطح المريخ!
- الطقس المشمس المستقر: يسمح بعدد كبير من أيام التصوير دون انقطاع.
- اليد العاملة الماهرة: ساهمت الحرف التقليدية (النقش على الخشب والجبس، الحدادة، النجارة) في صناعة الديكورات، كما برع السكان المحليون في العمل ككومبارس وفنيين.
- دعم الحكومة المغربية: من خلال تقديم تسهيلات وإعانات للإنتاجات السينمائية الدولية.
- بناء استوديوهات عملاقة: وهي الركيزة الأساسية لهذه الصناعة.
أهم الاستوديوهات:

- أطلس كوربوريشن: أول وأشهر استوديو، أنشئ في عام 1983، ويحتوي على ديكورات دائمة لمدن قديمة مصرية ورومانية وصحراوية.
- استوديوهات CLA: مجمع سينمائي ضخم وحديث، يعد من الأكبر في إفريقيا والعالم.
أهم الإنتاجات العالمية التي صورت في ورزازات:
- لورنس العرب (1962) – David Lean
- المومياء (1999) – Stephen Sommers
- المصارع (2000) – Ridley Scott
- أستريكس أوبيليكس: مهمة كليوباترا (2002)
- مملكة السماوات (2005) – Ridley Scott
- جزيرة الرعب (2010) – Martin Scorsese
- صلاة من أجل فرنسا (2014)
- كليوباترا (2023) -مسلسل قادم
- مسلسل صراع العروش (Game of Thrones): حيث مثلت مناطق في ورزازات مدينة “بنت” في إيسوس.
النتائج والآثار:
- اقتصاديًا: خلقت صناعة السينما آلاف الفرص العمل للمغاربة، من فنانين وتقنيين وحرفيين.
- ثقافيًا: وضعت المغرب على الخريطة السينمائية العالمية، وعرفت بالثقافة المغربية والعربية.
- سياحيًا: أصبحت الـ”سياحة السينمائية” رافدًا مهمًا، حيث يتوافد السياح لزيارة مواقع التصوير والديكورات الشهيرة.
ختاما، فإن ورزازات هي أكثر من مجرد مدينة؛ هي إرث طبيعي وتاريخي حي، وواحة إبداعية استطاعت أن تحول رمالها الذهبية إلى شاشة سينمائية عملاقة تعرض لأفلام العالم. إنها المكان الذي يتجلى فيه سحر الماضي وإبهار الحاضر في مشهد واحد، ليكون مصدر إلهام لا ينضب للمخرجين والزوار من جميع أنحاء العالم.