فاطمة الفهرية.. سيدة جعلت من الحلم العلمي صرحًا خالدًا

fatima fehriya

في قلب مدينة فاس العتيقة، حيث الأزقة الضيقة تفوح بعبق التاريخ، وحيث تعانق مآذن المساجد سماء المغرب، خُلّد اسم امرأة استثنائية لم تكتفِ بأن تكون ابنة عصرها، بل تجاوزت حدود الزمان لتكتب فصلًا من أعظم فصول الحضارة الإسلامية. إنّها فاطمة الفهرية، التي عُرفت بلقب “أم البنين”، وصاحبة أعظم إنجاز علمي وثقافي: تأسيس جامعة القرويين، أقدم جامعة في العالم.

جذور عريقة وحياة حافلة بالعطاء

ولدت فاطمة حوالي سنة 800م في مدينة القيروان (تونس حاليًا)، في بيت علم ودين، إذ تعود أصولها إلى أسرة عربية قرشية ينحدر نسبها من القائد عقبة بن نافع، فاتح شمال أفريقيا. هاجر والدها، التاجر الثري محمد الفهري، إلى فاس خلال حكم الدولة الإدريسية، حاملًا معه أسرته وطموحًا للاستقرار في هذه المدينة الناشئة التي تحولت بسرعة إلى مركز للتجارة والعلم.

لم تدم حياة فاطمة الزوجية طويلًا، إذ فقدت زوجها وأباها في فترة متقاربة، لكنها ورثت عنهما ثروة كبيرة إلى جانب أختها مريم. غير أن المال لم يفتنها، بل رأت فيه وسيلة للخير وخدمة المجتمع، خصوصًا وأنها نشأت على قيم الزهد والورع. فاشتهرت بعطائها للفقراء وطلاب العلم، حتى لُقّبت بـ”أم البنين”.

فكرة تتجاوز زمنها

مع ازدياد أعداد السكان في فاس، لم تعد المساجد الموجودة تكفي المصلين وطلاب العلم. عندها خطرت لفاطمة فكرة ستغير مسار التاريخ: بناء مسجد جامع كبير يكون منارة للعلم والدين. أختها مريم بدورها بادرت إلى بناء جامع الأندلس، بينما شرعت فاطمة في تشييد صرحها الذي سيعرف لاحقًا بـ”جامع القرويين”.

ما يلفت النظر في قصتها أنها أصرت على أن يُبنى المسجد من مالها الخاص، وأن تُستخرج جميع مواده من الأرض التي اشترتها. المؤرخون يذكرون أنها صامت طيلة فترة البناء، التي امتدت قرابة ثمانية عشر عامًا، مكرّسة جهدها وعبادتها لهذا المشروع العظيم.

من مسجد إلى جامعة

ما بدأ كمسجد جامع سرعان ما تحول إلى مدرسة علمية كبرى. كان العلماء يجلسون في حلقات داخل أروقته لتدريس الفقه والحديث واللغة، ثم توسع تدريجيا ليشمل الرياضيات والفلك والطب والمنطق والفلسفة. ومع مرور القرون، أصبح جامعة القرويين المؤسسة التعليمية الأعرق في العالم، متقدمة على الجامعات الأوروبية بعدة قرون، وهو ما أقرّته موسوعة “غينيس” للأرقام القياسية.

لم يقتصر إشعاع القرويين على المغرب فحسب، بل استقطب طلابًا وأساتذة من مختلف بقاع العالم الإسلامي وأوروبا. درس فيه ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع، وابن رشد الفيلسوف الكبير، وموسى بن ميمون الطبيب الأندلسي الشهير، بل وحتى البابا سيلفستر الثاني الذي ساهم في نقل الأرقام العربية إلى أوروبا.

مكانة سياسية وروحية

جامعة القرويين لم تكن مجرد مؤسسة علمية، بل لعبت أيضًا أدوارًا سياسية بارزة. فقد كانت القرارات الكبرى، مثل البيعة وإعلان الحروب أو عقد معاهدات السلم، تتم في رحابها وتُزكّى من علمائها. كما ظلت على مدى قرون مركزًا لصياغة الفكر الإسلامي المغربي القائم على التوازن بين الأصالة والتجديد.

أما من الناحية الاقتصادية، فقد امتلكت الجامعة أوقافًا ضخمة جعلتها مستقلة ماليًا عن الدولة، إلى درجة أن بعض السلاطين اقترضوا من خزائنها لتمويل مشاريعهم. كما امتد خير أوقافها إلى مساجد القدس ومكة والمدينة.

مكتبة القرويين.. ذاكرة خالدة

إلى جانب قاعات الدرس، أنشئت في القرويين إحدى أقدم المكتبات في العالم، ضمت آلاف المخطوطات النادرة في مختلف العلوم، من بينها مصاحف تعود إلى القرن التاسع الميلادي وكتب في الفلك والطب والرياضيات والفلسفة. هذه المكتبة ظلت على مدى العصور مقصدًا للباحثين والدارسين، شاهدة على أصالة المشروع الذي أطلقته فاطمة.

إرث فاطمة الفهرية

رغم أن تفاصيل حياتها الشخصية شحيحة، وأن تاريخ وفاتها يُرجح أن يكون سنة 878م، فإن أثرها ظل خالدًا. فهي لم تترك كتابًا أو مؤلفًا، لكنها تركت أعظم من ذلك: صرحًا علميًا ظلّ حيًا لأكثر من ألف عام، منارةً للعلماء والطلبة من شتى الأقطار.

إن قصة فاطمة الفهرية ليست مجرد سيرة امرأة صالحة، بل هي شهادة على أن الإرادة والرؤية يمكن أن تصنعا التاريخ. فقد كسرت الأعراف التي كانت تحصر دور المرأة في بيتها، لتصبح نموذجًا للريادة النسائية في الإسلام، ولتؤكد أن العلم والمعرفة لا يعرفان حدودًا جندرية أو جغرافية

خاتمة

اليوم، حين نذكر جامعة القرويين، فإننا لا نستحضر فقط أقدم جامعة في العالم، بل نستحضر أيضًا سيدة جسدت قيم الوقف والعلم والتجديد، سيدة آمنت بأن بناء العقول لا يقل شأنًا عن بناء الجدران. إنها فاطمة الفهرية، “أم البنين”، التي منحت للإنسانية درسًا خالدًا: أن المرأة قادرة على أن تترك بصمتها في التاريخ، وأن المشاريع الكبرى تولد من قلوب مؤمنة وعقول مستنيرة

حول الكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *