السجاد المغربي.. خيوط تحيك ذاكرة المكان وتفتح دروب الحداثة

لا يمكن للزائر إلى المغرب أن يغفل حضور “الزربية” (السجادة) المغربية، تلك القطعة الفنية التي تجمع بين الدفء المنزلي والعمق الثقافي. فهي ليست مجرد منتوج تقليدي يُعرض في الأسواق أو المعارض، بل شهادة حيّة على مسار حضاري طويل نسجته النساء بأصابعهن، وحملته الأجيال المتعاقبة كذاكرة جمعية ووسيلة تعبير فني واجتماعي. إن الزربية المغربية، بخطوطها وألوانها ورموزها، تعكس علاقة الإنسان المغربي بمحيطه الطبيعي والثقافي، وتُبرز في الآن ذاته قدرة التراث على الانفتاح على الحداثة والاقتصاد العالمي.
الأصل التاريخي للزرابي المغربية

ترجع جذور صناعة الزرابي في المغرب إلى قرون طويلة، ارتبطت فيها هذه الحرفة بالمجتمعات الأمازيغية والعربية التي عاشت في الجبال والسهول والبوادي. فالزربية لم تكن مجرد أداة للزينة أو الاستعمال اليومي، بل مكوناً أساسياً في حياة الأسرة المغربية.
في الأطلس الكبير والصغير، حيث الطبيعة قاسية والمناخ بارد، كانت الزربية وسيلة للحماية من البرد القارس. لكنها، مع مرور الوقت، تحولت إلى وسيلة للتعبير الفني عن البيئة والثقافة المحلية. فالألوان المستخلصة من النباتات (الحناء، قشور الرمان، الفوة، الأعشاب الجبلية) لم تكن اعتباطية، بل حملت رموزاً مرتبطة بالحياة اليومية والطقوس الاجتماعية.
كما ارتبطت الزربية بالطقوس الأسرية والدينية، حيث كانت تُنسج في مناسبات خاصة مثل الزواج أو الولادة أو الاحتفال بالمواسم. ومع مرور الأجيال، أصبحت لكل منطقة في المغرب “بصمتها” الخاصة التي تميز زرابِيها: فزربية تازناخت معروفة بألوانها البراقة وجودة صوفها المستخلص من جبال “سروة”، وزربية زمور تتميز بدقة هندسية، بينما تحمل الزربية “المراحية” في منطقة الشاوية طابعاً رمزياً يعكس ارتباطها بالبوادي.
البعد الثقافي والرمزي

الزربية المغربية ليست مجرد منتوج تقليدي، بل هي لغة بصرية تحمل دلالات اجتماعية وثقافية عميقة. فالأشكال الهندسية والخطوط الطولية والرموز المتكررة ليست زخارف عشوائية، بل رسائل تُترجم رؤية المرأة النساجة لعالمها.
اللون الأحمر، مثلاً، رمز للقوة والحياة، والأصفر يعكس دفء الشمس وخصوبة الأرض، أما الأزرق فيحيل إلى السماء والروحانية. هذه الألوان الثلاثة تشكل قاعدة النسج، لكن إبداع النساجات جعلها تتطور باستمرار بإضافة ألوان جديدة دون التفريط في الأصالة.
ولأن النساء هن الفاعلات الرئيسيات في هذه الحرفة، فقد تحولت الزربية إلى مساحة للتعبير عن الذات. كثير من النساجات يعتبرنها “دفتر يوميات” تُسجل فيه الأحاسيس من فرح وحزن وانتظار وعشق. هي لوحات مشحونة بالمعاني الإنسانية، لكنها في الآن ذاته تعكس انتماءً جماعياً وهويةً مشتركة.
هذا البعد الثقافي جعل من الزربية المغربية موضوعاً لاهتمام الباحثين والفنانين، فهي تحمل في تفاصيلها عناصر من الفلكلور، والموسيقى، والرموز الدينية والاجتماعية. وبالتالي فهي ليست قطعة أثاث منزلي، بل “وثيقة تراثية” تُجسد ذاكرة المجتمع المغربي.
الأبعاد الاقتصادية

في العقود الأخيرة، انتقلت الزربية المغربية من فضاء البيت المحلي إلى فضاءات الأسواق الدولية. فقد تحولت إلى منتوج يُسوَّق في المعارض الوطنية والعالمية، وأصبحت تشكل مصدر دخل أساسياً لآلاف النساء في القرى المغربية.
الحكومة المغربية بدورها عملت على حماية هذه الحرفة من الاندثار، عبر برامج متعددة، منها إنشاء دور للمهنيين موزعة على جهات المغرب، توفر فضاءات للإنتاج والتكوين والتسويق. هذه الدور تُساعد النساجات على تجاوز الوسطاء الذين كانوا يشترون الزرابي بأثمان زهيدة ويعيدون بيعها بأسعار مضاعفة.
إلى جانب ذلك، جرى تسجيل مجموعة من العلامات الجماعية للتصديق وشارات للجودة في المكتب المغربي للملكية الفكرية، وأيضاً في مؤسسات أوروبية وأمريكية، لحماية الزرابي المغربية من القرصنة الدولية. هذا الاعتراف القانوني منح الزربية مكانة في السوق العالمية، باعتبارها منتوجاً أصيلاً ذا قيمة ثقافية واقتصادية.
ورغم أن الصناعة التقليدية تواجه منافسة قوية من المنتجات الصناعية الميكانيكية الأرخص ثمناً، فإن الإقبال على الزرابي اليدوية ما زال قائماً، خصوصاً من قبل السياح الأجانب والمهتمين بالديكور الفاخر. فهي تجمع بين الأصالة الفنية والوظيفة العملية، ما يجعلها مطلوبة في الأسواق الأوروبية والأمريكية والآسيوية.
التحديات الراهنة
رغم الجهود المبذولة، تواجه الزربية المغربية تحديات كبيرة تهدد استمرارها:
- ضعف إقبال الجيل الجديد: كثير من الشباب المغربي لم يعد يرى في الزربية حرفة ذات مستقبل، ما يهدد بانقطاع سلسلة التوارث بين الأجيال.
- المنافسة الصناعية: دخول السجاد الصناعي الرخيص إلى الأسواق المحلية والعالمية يجعل الزرابي التقليدية في موقف صعب من حيث الأسعار.
- التسويق والابتكار: لا تزال طرق التسويق محدودة في كثير من المناطق القروية، مما يجعل المنتوج غير قادر على الوصول إلى أسواق أوسع.
- التغيرات الاجتماعية: الهجرة من القرى إلى المدن أدت إلى تراجع عدد النساء الممتهنات للحرفة، وهو ما يضع التراث في خطر الاندثار.
آفاق المستقبل
الزربية المغربية ليست مجرد صناعة تقليدية، بل هي تراث وطني يجمع بين الأصالة والوظيفة، ويحمل في طياته إمكانيات اقتصادية وثقافية هائلة. الحفاظ عليها يتطلب استراتيجية شاملة تجمع بين:
- التكوين والتأطير: عبر إدماج الحرفة في برامج التعليم والتكوين المهني.
- الابتكار والتجديد: من خلال إدخال تصاميم عصرية تستجيب لذوق المستهلك العصري مع الحفاظ على الأصالة.
- التسويق الرقمي: فتح أسواق جديدة عبر التجارة الإلكترونية والمنصات العالمية.
- الوعي الثقافي: غرس فكرة أن الزربية ليست ماضياً يندثر، بل جزء من هوية وطنية قابلة للتجديد.
بهذه المقاربة، يمكن للزربية المغربية أن تحافظ على مكانتها كرمز ثقافي، وأن تتحول في الوقت ذاته إلى رافعة اقتصادية للنساء القرويات، وجسر للتواصل الحضاري بين المغرب والعالم. فهي، في النهاية، خيوط تحيك ذاكرة المكان وتفتح دروب الحداثة.