صناعة الرأي العام بين الفاعل الاعلامي والفاعل السياسي!

د. عبد الله بوصوف (أمين عام مجلس الجالية المغربية بالخارج)
ظل الفاعل السياسي، ولعقود عديدة، هو المهيمن على الحياة السياسية والقرارات الكبرى والسياسات العمومية، وانقسمت أدواره (الفاعل السياسي) بين الساهر على رسم وتنفيذ تلك السياسات في إطار الحزب الفائز في تلك الانتخابات أو داخل تحالفات حكومية من جهة، وبين لعب دور المعارضة ومراقبة أعمال الحكومة من جهة ثانية.
تطور الفكر السياسي وحاجته الى آليات وأدوات جديدة سواء لتسويق أو لتمجيد أعمال الحكومة أو لانتقادها من طرف المعارضة، جعل من أدوات التواصل حاجة ملحة وضرورية للفاعل السياسي أيا كان مركزه أو موقعه سواء في الأغلبية أو المعارضة.
وهكذا تربعت الجرائد الورقية لمدة طويلة على عرش التواصل بين الفاعل السياسي والمواطن / الكائن الانتخابي، وتناسلت وتطورت تلك الآليات بشكل قوي ومؤثر كالراديو والتلفزيون والسينما، والتي لعبت دورا قويا أثناء الحرب العالمية الأولى أو الثانية في تأطير الجماهير، بل خلقت ألمانيا النازية في مارس 1933 وزارة التنوير والدعاية العامة عبر مهندسها جوزيف غوبلر، وسيتعاظم دور الفاعل الاعلامي في تأطير وتوجيه الراي العام أثناء الحرب الباردة، إذ اعتبرت محركا اساسيا في السياسات الخارجية والسياسات العمومية بالداخل.

اليوم ومع هذا الكم الهائل من الإنتاجات الإعلامية الرقمية، والترف الاعلامي وشبكات التواصل الاجتماعي، كلها عوامل جعلت من إعادة سؤال تراتبية الفاعل السياسي والإعلامي حاجة ملحة مرة ومستفزة مرات أخرى، ومن يؤثر في الآخر هل الاعلامي أم السياسي؟ وهل الفاعل الاعلامي أصبح رقما صعبا في صناعة القرار السياسي؟ أم أن دوره يقتصر فقط على تسويق البرامج وتلميع فاعلين سياسيين وتقريع آخرين؟ فلا احد بإمكانه إنكار الدور الكبير الذي يلعبه الفاعل الاعلامي في مراقبة أو انتقاد قرارات سياسية من جهة، وفي توجيه وتأطير المواطن / الناخب قبل أو أثناء الاستحقاقات الانتخابية من جهة أخرى.
الحقيقة التي يعرفها الجميع، هي أن الفاعل الاعلامي هو الذي يحدد زمن نقاش مواضيع السلم والحرب، ومواعيد المفاوضات وطاولة النقاش، ويحدد أولويات اهتمامات الراي العام، بين الدفاع عن القيم أو الهوية، أو الأمن والبيئة، أو حقوق الانسان والهجرة. بمعنى أنه يضع المواطن أمام “عرض إعلامي” لا يمكن معه التفكير خارج صندوق العرض، فهو يضع حدودا لكل الاختيارات، إذ يخال للبعض أنه يختار بمحض إرادته؛ والحقيقة أن العرض الاعلامي يحد من هامش الخروج عن الاختيارات المعدة مسبقا!
ولعل تمدد اليمين المتطرف بالغرب، هو نتيجة للعرض الاعلامي القائم على تحديد الأولويات والبرامج، وصناعة ناخب لا يفكر خارج الصندوق، بل يعتبر نفسه “ناشطا ” ومدافعا عن مضمون العرض الإعلامي لليمين المتطرف. ولن نفاجأ إذا اكتشفنا أن إعلام أحزاب اليمين واليمين المتطرف، هو ممول من طرف هيئات وشركات وأشخاص نافذين في عالم المال والاعمال، تسخر الإعلام لخدمة أجندتها السياسية والأيديولوجية.

وبانتقالنا لدائرة أكبر وأوسع، سنجد أن القائمين على صناعة الرأي العام العالمي، يكادون يقتصرون على أربع وكالات أخبار عالمية، انطلاقا من أربع عواصم عالمية وهي نيويورك ولندن وباريس وبرلين، وهي وكالات أخبار تتحكم في تسويق الأخبار والصور عبر العالم، حسب دراسة سويسرية صدرت في يونيو 2016.
فالوكالة الامريكية Associated Press (AP) ومقرها بنيويورك، تتوفر على أكثر من 4000 موظف عبر العالم، ويستفيد من خدماتها ازيد من 12 ألف وكالة عبر العالم، حيث تصل أخبارها يوميا لنصف سكان العالم.
ووكالة France Press ( AFP) ومقرها بباريس، تشغل حوالي 4000 موظف، تنتج يوميا حوالي 3000 خبر ومثلهم من الصور لفائدة العديد من الوكالات في العالم.
ثم الوكالة البريطانية Reuters ومقرها لندن وتشغل حوالي 3000 موظف، وسيقوم Thomson رجل الأعمال الكندي بشراء Reuters سنة 2008، ليصبح مقر Reuters Thomson بنيويورك.
ثم هناك الوكالة الألمانية DPA ومقرها برلين، وتشغل حوالي 1000 موظف في العديد من بلدان العالم، كما تملك دور النشر ومحطات الراديو، كما لها ترخيص من AP الأمريكية لتسويق الخدمات الإعلامية في البلدان الناطقة بالألمانية.
أغلب وكالات الاخبار العالمية، لها شراكات مع هذه الوكالات الأربع من أجل تسويق الخدمات الإعلامية، بما فيها خدمات مراسليها عبر العالم. وبطبيعة الحال فإن الفاعل السياسي ينهل من اخبار هذه الوكالات ويتأثر بتحليلاتها ويحذر من اضواءها.
وفي نفس الوقت، فإن الفاعل الإعلامي يشتغل في مساحات حرية رسمها الفاعل السياسي، ويشتغل بحذر مخافة كل ردة حقوقية وإعلامية، يكون بطلها الفاعل السياسي عن طريق سن قوانين تحد من حرية الصحافة مثلا، .فلا ننسى قضية “ووترغيت” وسقوط الرئيس الأمريكي نيكسون من طرف صحافيين إثنين.

اليوم تزداد المساحة المشتركة اتساعا في صناعة الرأي العام بين الفاعل الاعلامي والفاعل السياسي، بفضل الثورة الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعي.
لقد تطور توصيف مجال اشتغال الفاعل الإعلامي بين صاحبة الجلالة والسلطة الرابعة، في انتظار توصيفات جديدة تتماشى مع عصر الذكاء الاصطناعي. لكن الفاعل السياسي احتفظ بتوصيفه، مع بعض الإضافات كالراديكالي والمتطرف والشعبوي، وغيرها.
في جانب آخر، فلغة الواقع تقول أن كليهما شريك للآخر في صناعة الرأي العام العالمي بمواصفات خاصة، والأكيد أن الثورة الرقمية والتكنولوجية وسرعة انتقال المعلومة، ستدفع لا محالة بالمواطن/ الناخب للبحث عن قراءات جديدة خارج صندوق العرض الاعلامي والسياسي.
