الاحتجاجات في المغرب.. دليل حيوية المجتمع والنظام!!

تشهد المغرب هذه الأيام، تظاهرات واحتجاجات شعبية يقوم بها أساسا عشرات ممن يصطلح على تسميتهم “الجيل Z” تيمنا بما جرى ويجري في دول جنوب آسيا، بدءا من سريلانكا؛ فبنغلاديش؛ وأخيرا نيبال. ورغم الفارق الهائل بين الحالة المغربية وما جرى في هذه البلدان الأسيوية من احتجاجات، إلا أن الإعلام بشقيه: عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك الخارجي التقليدي، أصبح مهتما فجأة بما يجري في المغرب، دون أن يعرف عنه اهتمام خاص بالاحتجاجات ذات الخلفية الاجتماعية!!
ورغم صعوبة الخوض في محاولة فهم احتجاجات المغرب، وتحديد الخط الفاصل بين ما هو مشروع وإيجابي، وما هو “مشبوه” وسلبي، فقد قررنا المحاولة، انسجاما مع رسالتنا التي لا تتردد في التعبير عن انحيازاتها، ودعم كل ما من شأنه تحسين مستوى معيشة المغاربة، لاسيما الفئات الأكثر احتياجا وهشاشة، دون أن يلهينا هذا الانحياز عن رؤية المخاطر التي يمكن أن تترتب على خروج هذه الاحتجاجات المشروعة عن سياقها النافع، عبر السماح بتجيير المطالب الشعبية المشروعة لصالح فئات، داخلية وخارجية، تحسن استخدام هذه المطالب كما استخدم “قميص عثمان”! دون أن تهتم كثيرا بمآل مطالب المحتجين ولا مدى ما تحقق منها.
لهذه الغاية، نجد لزاما علينا التنبيه والتذكير بما نعتبره “حقائق أساسية”، من المهم أن لا نسمح بأن يطمسها او يشوش عليها غبار الأحداث:
بداية، هذه الاحتجاجات، وعكس ما سواها من أفعال مشابهة شرقا وغربا، ليست موجهة إلى النظام الملكي، كما لم تكن سابقتها في 20 فبراير كذلك، خلافا لما جرى في كل البلدان العربية التي شهدت احتجاجات شعبية في ذلك الوقت. قد تبدو هذه الحقيقة عصية على فهم من لا يعيشون الواقع المغربي بتفاصيله، من ذوي النوايا الحسنة، وغير قابلة للتصور من طرف من يعنيهم تعكير مياه هذه الأحداث، ليسهل الاصطياد فيها، من خصوم المغرب أساسا!! لقد أتيح لكل من تابع جانبا من هذه الاحتجاجات أن يسمع الكثيرين يرددون شعار المملكة الخالد: الله الوطن الملك؛ ناهيك عن عدم ترديد شعار موجة “الربيع العربي” المشهور: الشعب يريد إسقاط النظام! وعليه، نقول لمن يحاولون تسعير هذه الموجة الاحتجاجية، مؤملين أن تبث الاضطراب في أوساط النظام وتساهم في إضعافه: خاب مسعاكم، “العبوا غيرها” على حد تعبير إخوتنا المصريين!!

ثاني هذه الحقائق، أن مطالب المحتجين، على عمومها، هي مطالب محقة، حيث لا يحظى جميع المغاربة بنفس القدرة على الولوج إلى خدمات التعليم والصحة، وهو ما عبر عنه، وحذر منه ملك البلاد نفسه، عندما تحدث عن كون المغاربة لا يستفيدون من ثروات بلادهم ولا عوائد تنميتها بشكل عادل. ومع ذلك، يجب أن لا يحجب عنا هذا الواقع، حقيقة تقلص خريطة الفقر بشكل شديد الوضوح، وأن الطبقة الوسطى تستمر في التوسع بشكل مضطرد، وهو المؤشر الذي يعتبر غاية في الأهمية. بكلام آخر، يجب أن تنتصب هذه الاحتجاجات “دليلا” على “رمادية” الواقع الاجتماعي -كأي واقع اجتماعي في أي مكان بالعالم- “ونفيا” لبياضه المطلق أو سواده الحالك!!
ثالث هذه الحقائق، تقول بأن الحكومة، وتحديدا رئيسها الذي يحظى بنصيب الأسد من هذه الاحتجاجات، بحاجة ملحة لتعديل خياراتها الاقتصادية، لجهة تفضيل مصلحة المنتجين، أو السواد الأعظم من المواطنين، على مصالح من ينتمون إلى “قبيلة” رئيس الحكومة من رجال أعمال. ولتوضيح هذا الأمر نكتفي بإيراد أوضح ثلاثة أمثلة، كانت الوقود الذي حرك هذه الاحتجاجات: في التعليم والصحة، تم تفصيل نظام يصب في مصلحة القطاع الخاص الذي يمتلك مدارس وعيادات خاصة، ويفرض ما يشاء من رسوم على المواطنين، تحت الحجة الواهية “حرية المنافسة” واحترام بيئة “اقتصاد السوق”، ناهيك عن الاهتمام بالقطاعات التصديرية لاسيما في الفلاحة والصيد البحري، والذي شغل منصبها السيد أخنوش قرابة عشر سنوات قبل أن يصبح رئيسا للحكومة الحالية، دون أن يضع في الاعتبار آثار ذلك على القدرة الشرائية للمواطنين. إن الاهتمام بجلب العملة الصعبة وتهيئة بيئة مناسبة للمستثمرين الأجانب، على أهميته، يجب أن لا يكون بأي حال على حساب السلم الاجتماعي، حتى لو نجح فيما يراه كثير من المواطنين “شراء” تواطؤ النقابات وباقي الشركاء الاجتماعيين للحكومة، لأنه ليس أسهل على الناس في النهاية، من نزع شرعيتها عمن تجد فيه تخليا عن واجباته تجاهها.

رابع هذه الحقائق، أننا، وكأي حراك شعبي في أي مكان في العالم، نجد خليطا من المطالب الواعية والمشروعة، ممزوجا بكثير من اللغط “والشعبوية” المتمثلة في مطالبات، إما تسربت دون قصد في خضم محاولة الجميع الإدلاء بدلوه، أو بنية مبيتة سيئة، من أجل حرف المطالب الشعبية عن بوصلتها النبيلة، وتحويل وجهتها إلى وجهة مضرة بمصالح المواطنين أنفسهم، قبل أن تطال الحكومة ورئيسها. وعليه، فالمطالبة بمقاطعة مهرجان موازين وكأس أمم أفريقيا وغيرها من المطالب “الكاريكاتيرية”، ستشتت جهود المحتجين قبل غيرهم. والبديل هنا، أن تبقى المطالب مركزة على ما يمس القدرة الشرائية والمستوى المعيشي للمواطنين.

خامس هذه الحقائق تقول، أن من الظلم تخصيص الحالة الاحتجاجية المغربية بوضع لا تنطبق عليه أي من قوانين الدنيا، وهو نفس ما ينطبق على سلوك قوات الأمن تجاه المحتجين. وعليه، فالاحتجاجات في مجملها الأعم كانت سلمية ومنضبطة، مع توقع بعض الظواهر العنيفة والانفلاتات اللفظية من بعض المتظاهرين الشباب، وهو الأمر الأكثر من طبيعي. حالة واجهتها قوات الأمن بهدوء أعصاب في المجمل، مركزة على دفع الشباب إلى التوقف، عبر تكرار عبارة “سير فحالك” بكثرة، دون أن يخلو الأمر من بعض ردود الأفعال العنيفة على التجاوزات اللفظية والسلوكية التي قد تبدر عن بعض المحتجين هنا او هناك. وهكذا، وللحكم على هذه الأفعال من قبل الطرفين (المحتجين ورجال الأمن) فيجب مقارنتها بما كان يجري في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي في المغرب، وكذا في باقي الدول العربية والإسلامية والعالمثالثية التي عاشت تجارب مشابهة، ناهيك عن تجارب أبرز الدول الغربية كفرنسا والولايات المتحدة مؤخرا، والتي وصل بالرئيس ترامب الأمر لمواجهتها (أي الاحتجاجات الشعبية) بنشر قوات الجيش في الشوارع!!
آخر هذه الملاحظات تقول، بأن الوجه الآخر لهذه الاحتجاجات هو التدليل على “حيوية” الشعب المغربي بمختلف أطيافه، وعمق إحساسهم بكرامتهم، وإدراكهم لحقوقهم، ناهيك عن وعيهم الذي أظهرته تحركاتهم، كما أنها دليل أيضا على احترافية الجهاز الأمني الذي يحرص على الموازنة في ردود أفعال أفراده بما يواجهونه من أفعال الشباب المحتجين. وهي أخيرا دليل على متانة وحيوية هذا النظام، وقدرته على استيعاب المطالب المشروعة لفئاته الاجتماعية المختلفة، دون أن يسمح بتخريب ما يقوم به من جهود قد لا تظهر نتائجها الإيجابية مباشرة!
ختاما، ولمن لا يعرف المغرب، من محبيه وخصومه، نؤكد لهم حقيقة ناصعة: لا أحد يعرف الشعب المغربي كالقصر؛ كان هكذا عبر تاريخه الممتد؛ وهو كذلك حاليا في عهد الملك محمد السادس؛ وسيبقى كذلك لعقود وقرون قادمة. أمر يفسر لماذا استمر هذا النظام الملكي دون غيره في العالم، كل هذه المدة (الأطول في العالم) على الرغم من كل ما مر به من أزمات ومواجهات. وعليه، وعندما تحين اللحظة المناسبة التي يحددها ملك البلاد، سيخرج إلى شعبه مستجيبا لمناشداتهم، وسيربت على أكتافهم، ويقوم بما يثق الشعب مسبقا بأنه ضروري لتصحيح مسار إدارة الشأن العام في المغرب، بطريقة تتناسب مع حجم الاختلالات والانحرافات. وإلى ذلك الحين، نقول لمن لديهم أجندات خفية وخاصة تجاه المغرب، دولة وشعبا ومؤسسات، ولمن لا يستطيعون التخلص من أسر أيديولوجيا معادة الملكيات، كونها ملكيات، صدقونا عندما نقول: “ليس لكم على المغاربة سبيلا”!!