عصر محمد السادس..أولا: فلسفة الحكم.. عندما تجتمع الشجاعة مع الرؤية الاستشرافية!

King Mohammed 6 III

لطالما قرأنا أن المملكة المغربية هي أقدم ملكية مستمرة دون انقطاع على وجه الكرة الأرضية، وأن الأسرة الحاكمة الحالية (الأسرة العلوية) تعتبر ثاني أقدم أسرة حاكمة في العالم (بعد اليابانية). هذه العراقة جعلت جيران الشمال الأوروبيين، حتى في أزهى عصور قوتهم، يطلقون على هذه المملكة الراسخة مسمى “الإمبراطورية الشريفة”، على الرغم من أن تواضع المغاربة جعلهم يكتفون، ومنذ بداية القرن السادس عشر، وتحديدا منذ تأسيس دولة الشرفاء السعديين عام 1510 بأن يطلقوا على المغرب اسم “السلطنة الشريفة”، الذي تحول مع دولة الشرفاء العلويين إلى اسم “المملكة الشريفة” منذ عام 1665، حتى تم استبداله بالاسم الحالي “المملكة المغربية” في عام 1912، عندما بدأت رسميا حقبة “الحماية الفرنسية”.

لماذا نسوق هذه المقدمة التاريخية؟ لنبين معطى في غاية الأهمية: أن بلدا بهذه العراقة وهذا الرسوخ، وشعبا بهذا “الثقل” والشموخ، حتم -عبر تاريخه- على جميع القوى العظمى، التعامل معه من موقع الند، وليس كباقي الدول العربية، التي ورغم عراقة معظمها من الناحية التاريخية، إلا أن تبعيتها لمختلف الممالك التي تعاقبت على حكم المنطقة العربية، لم تسمح لها بمراكمة هذا الشعور “الإمبراطوري” ب “الاستقلال” و”العظمة”!  

من هنا، وفي غمرة احتفال المغاربة بالذكرى السادسة والعشرين لتربع جلالة الملك محمد السادس على الحكم، اخترنا أن نقوم “بجرد حساب” سريع ومكثف، لما يمكن تسميته “عصر محمد السادس”، لأن سنوات حكمه هي فعلا حقبة منفصلة وهامة من تاريخ المغرب، على الرغم من صعوبة إقامة حد فاصل دقيق بين عهده وعهد والده الراحل الملك الحسن الثاني، ومن سبقوه من الملوك؛ فالتراكم هو السمة الأبرز “لأقدم ملكية في التاريخ”، وهو الذي سمح لها باحتلال المنزلة التي تحتلها حاليا، ويشرعن طموحها باسترجاع مكانتها كإمبراطورية أو سلطنة شريفة، كما كانت عبر تاريخها! إن إدراك الأوروبيين لخصوصية “الإمبراطورية الشريفة” جعل أحد أبرز أهدافهم، ومنذ ما قبل مؤتمرهم الاستعماري في برلين عام 1878، هو حصار المملكة الشريفة، ومحاولة “حبسها” جغرافيا ما بين “الجزائر الفرنسية” والمحيط الأطلسي، وترك الصحراء الكبرى جنوبا تكمل هذا الحصار الطبيعي، على أمل النجاح في قطع أواصر المغرب مع امتداده الشرقي، وعمقه الجنوبي مع أفريقيا جنوب الصحراء. هذا الهدف الاستراتيجي كان الرهان الأبرز للسياسة الاستعمارية تجاه السلطنة الشريفة، وللأسف فإن استكمال نجاحه شرقا تم على أيدي شركاء الكفاح وأخوة الدم، حكام الجزائر، والذين يحافظون على إغلاق الحدود البرية مع المغرب منذ عام 1994 (31 سنة)، يضاف إليها إغلاقهم لها من سنة 1976 حتى سنة 1988، بمعنى أوضح، أنه خلال نصف القرن الأخير من عمر الجزائر المستقلة، لم تفتح حدودها البرية مع المغرب سوى لمدة ست سنوات (1988-1994)!! وقطعت بالتالي روابطه البرية مع باقي دول شمال أفريقيا؛ ألا يثير هذا الاتفاق بين سياسة النظام الجزائري وسياسة المستعمر الفرنسي عشرات علامات الاستفهام؟!

وعليه، عند وضع “عصر محمد السادس” في سياقه، لا يجب أن نستحضر الصعوبات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي ورثها، بل السياق الدولي المحيط به، لاسيما العلاقة “الملتبسة” مع فرنسا، والمحيط الإقليمي والقاري غير المستقر. وعليه، وبجانب أولوية تمتين الجبهة الداخلية، كان لزاما على الجالس على عرش المملكة الشريفة أن يعطي نفس الأهمية لحسم النزاع المفتعل حول وحدته الترابية، وإقفال ملف الصحراء المغربية الذي لطالما استخدمته القوى الكبرى لابتزاز المغرب وإضعافه، ولم تدفع يوما -بشكل حقيقي- من أجل إنهائه، الذي هو في النهاية مصلحة مغربية تناقض المصلحة الغربية. إن المراقب الذي ينظر أين كان المغرب في معادلة القوى المختلة مع “كبار العالم” بداية الألفية الحالية، وأين أصبح اليوم بعد انقضاء ربع قرن، سيلاحظ فرقا هائلا لا يمكن لمن لم يعش هذه السنوات في المغرب أن يستوعبه.

لقد شكل ترتيب البيت الداخلي أولوية مطلقة للملك الشاب محمد السادس في بداية عهده. فكان أن وضع “المفهوم الجديد للسلطة” في خطابه في الدار البيضاء بتاريخ 12 أكتوبر 1999 (بعد قرابة 70 يوما من استلامه الحكم)، وفيه أسس لعقيدة جديدة كليا (وتحديدا على الأنظمة العربية جمهورية كانت أو ملكية)، حولت علاقة السلطة بالمواطنين من علاقة قائمة على النفوذ والتحكم إلى سلطة تخدم المواطن، وتحترم القانون، وتعمل بشفافية ومسؤولية، مع التركيز على التنمية الشاملة واللامركزية. هذه الخطوة الشجاعة أسست لخطوة لم تكن قابلة للتصور (تحديدا في السياق العربي منذ دولة الخلافة!!) وهي اعتراف الدولة الرسمي بالمسؤولية عن انتهاكات حقوق الإنسان التي تمت خلال ما يسمى “سنوات الرصاص”، عبر تأسيس هيئة مستقلة (هيئة الإنصاف والمصالحة) كشفت مصير المئات من المختفين، وثقت شهادات الضحايا، وجبرت ضررهم، وعوضتهم عن هذه الانتهاكات، وطوي الملف باستقبال الملك محمد السادس للعديد من أسر الضحايا في القصر الملكي، مستمعا لمعاناتهم، مؤكدا على ضرورة طي الملف بمصالحة وطنية حقيقية، مع التشديد على أنها غير قابلة للتكرار.

هذا الشجاعة الاستثنائية، توجت بمحطة ثالثة عنوانها “دستور 2011″، حيث لم يحتج الملك محمد السادس (على خلاف باقي القادة العرب الذين مروا بنفس التجربة) سوى ل 17 يوما فقط، قبل أن يخرج في خطاب 9 مارس معلنا عن ضرورة كتابة دستور جديد للبلاد يترجم الرغبة في الإصلاح السياسي، وليس مجرد تعديل بعض بنوده كما طالب بذلك بعض نشطاء حراك 20 فبراير. دستور مهد لتجربة تناوب ثانية جلبت الإسلاميين المعتدلين إلى مقاعد المسؤولية العمومية، بعد أن منحت التجربة الأولى في عهد الملك الراحل الحسن الثاني الاشتراكيين بقيادة عبد الرحمن اليوسفي تجربة إدارة الشأن العام من داخل أروقة التسيير الحكومي وليس عبر الصحف ومقاعد البرلمان!

هذا البعد في شخصية الملك محمد السادس (الشجاعة) والذي يتجلى في محطات كثيرة خلاف ما ذكرناه سابقا، لا ينفصل عن بعد آخر، تبعد الشجاعة عن التحول إلى “تهور” أو “انتحار”!! وهو بعد “الرؤية الاستشرافية”. فالملك الذي أدرك أنه لا قبل لبلاده بمواجهة القوى العالمية دون وضع داخلي متين، عمل على الانتقال من مرحلة معالجة الاختلالات إلى مرحلة بناء الذات المستقلة، وتنويع العلاقات الدولية، بحيث يتحول المغرب خلال عقدين من الزمن إلى لاعب إقليمي وقاري ودولي كبير، تتشابك على أرضه مصالح القوى الكبرى بطريقة يجعلها حريصة على استقرار المملكة الشريفة لاستدامة هذه المصالح، مما يؤدي في النهاية إلى الاعتراف بضخامة حجم الدور المغربي على الساحة الأفريقية والدولية وأهميته، إلى الدرجة التي تجعل هذا الدور عصيا على “السحق” أو التجاهل. وهو ما كان!!

لقد أدرك الملك محمد السادس بنظره الاستراتيجي أن وأد محاولة حصار المغرب التاريخية لن يتأتى إلى بوضعه على خريطة التجارة العالمية، عبر أداتها الأبرز “الموانئ”. فكان قرار إنشاء ميناء طنجة المتوسط الذي أصبح خلال أقل من عقدين ثالث أكبر ميناء للحاويات في العالم!! ونعيش حاليا عصر تكرار التجربة باستنساخها في الناظور والداخلة، مع تجارب أصغر قليلا في كل من القنيطرة والدار البيضاء والجرف الأصفر وأكادير، الأمر الذي يجعل من الحصار البري للمغرب بالجغرافيا والسياسة أمرا مثيرا للسخرية. بنية مينائية تعززت بأخرى سككية، وشبكة طرق سيارة، وتوسع للنقل الجوي، لدرجة يصبح المغرب معها لاعبا تتجاوز أهميته حدوده القارية، ويصبح التواجد على أرضه حلما لأي شركة عالمية كبرى مهما كان اختصاصها. وسنوالي في باقي حلقات هذه السلسلة التطرق لملامح هذه الرؤية الاستشرافية في المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والرمزية (القوة الناعمة).

كخلاصة، عندما تجتمع الرؤية الاستشرافية، مع الطموح “الإمبراطوري”، ويقترنان بالشجاعة الحكيمة، وهي الصفات التي اجتمعت في شخصية الملك محمد السادس، تصبح السماء هي سقف الطموح المغربي، وتصبح استعادة “المملكة الشريفة” لمكانتها التي لطالما تمتعت بها عبر قرون عمرها الممتدة، مسألة وقت لا أكثر!!

حول المؤلف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *