ميناء الداخلة الأطلسي:بوابة المغرب نحو إفريقيا وركيزة لترسيخ السيادة على الأقاليم الجنوبية.

Dakhla port

يُعد مشروع ميناء الداخلة الأطلسي واحدا من أبرز المشاريع البنيوية التي يعتزم المغرب إنجازها في إطار الرؤية الملكية لتنمية الأقاليم الجنوبية، وتعزيز مكانة المملكة كحلقة وصل استراتيجية بين أوروبا وإفريقيا. ويتجاوز المشروع أبعاده الاقتصادية الصرفة، ليُجسّد أداة استراتيجية لترسيخ السيادة الوطنية، وتحقيق التكامل الإفريقي، وتفعيل الشراكة جنوب–جنوب.

وقد أكد جلالة الملك محمد السادس في خطابه السامي الموجّه إلى الأمة بتاريخ 7 نونبر 2020، بمناسبة الذكرى الخامسة والأربعين للمسيرة الخضراء، على أهمية هذا المشروع، مشيرًا إلى أن المغرب “استكمل ترسيم مجالاته البحرية، في إطار القانون الوطني، وبما ينسجم مع مبادئ القانون الدولي.” كما شدّد الملك على “التزام المملكة بالحوار مع الجارة إسبانيا بخصوص المناطق البحرية المتداخلة، في إطار قانون البحار واحترام الشراكة الثنائية”، مؤكدًا أن “توضيح حدود المجالات البحرية سيدعم الرؤية الرامية إلى تعزيز الدينامية الاقتصادية والاجتماعية، وأن الواجهة الأطلسية للأقاليم الجنوبية ستكون منصة للتكامل الاقتصادي والإشعاع القاري والدولي، إلى جانب ميناء طنجة المتوسط الذي يحتل مكانة ريادية على المستوى الإفريقي”.

وبحسب المعطيات الرسمية المغربية ، تُقدّر تكلفة مشروع ميناء الداخلة الأطلسي بحوالي 12.5 مليار درهم مغربي (ما يعادل 1.2 مليار دولار أمريكي)، بتمويل من الدولة المغربية وشراكات متعددة. وسيُشيد الميناء على بعد 40 كيلومتراً شمال مدينة الداخلة (تقع المدينة على شبه جزيرة ضيقة في جنوب المغرب، محاطة بمياه المحيط الأطلسي من ثلاث جهات. تعتبر الداخلة وجهة سياحية مميزة تجمع بين جمال الطبيعة الصحراوية وروعة الشواطئ الساحلية. تشتهر المدينة بمناخها المعتدل على مدار السنة )، متضمناً ثلاثة أقطاب رئيسية: قطبًا تجاريًا، وآخر مخصصًا للصيد البحري، وثالثًا موجهًا للصناعات والخدمات اللوجيستية.

يكتسي الميناء أهمية استراتيجية كبيرة سواء لجهة الداخلة – وادي الذهب، أو لإفريقيا الغربية عامة، حيث يُنتظر أن يسهم في دعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية والصناعية للمنطقة في مختلف القطاعات الإنتاجية، مثل الصيد البحري، والزراعة، والتعدين، والطاقة، والسياحة، والتجارة، والصناعات التحويلية. كما يُنتظر أن يوفر بنية تحتية لوجيستية حديثة ومتطورة تستوعب الطلب المتزايد على خدمات النقل البحري على المستويين الإقليمي والدولي.

وعلى الرغم من الانزعاج الذي عبّر عنه بعض خصوم المغرب، سواء من الحركات الانفصالية أو من بعض دول الجوار التي ترى في المشروع تهديدًا محتملاً لمصالحها في مجال النقل البحري والتجاري، فإن المملكة المغربية تواصل إنجاز مشروع ميناء الداخلة الأطلسي بخطى ثابتة، مدفوعة برؤية استراتيجية شاملة تهدف إلى ترسيخ ريادتها البحرية وتعزيز موقعها الجيو-اقتصادي في منطقة الساحل وغرب إفريقيا.

أن ميناء الداخلة الأطلسي يُعدّ ركيزة محورية في خطة المغرب لتنويع بواباته البحرية، وتقليص التبعية للمنافذ الشمالية، عبر توجيه أنظاره نحو العمق الإفريقي. ويُنتظر أن يُحدث المشروع تحوّلًا بنيويًا في المشهد الاقتصادي لجهة الداخلة – وادي الذهب، وذلك من خلال مجموعة من الآثار الهيكلية المتوقعة، نذكر منها على وجه الخصوص:

إيجاد  آلاف فرص الشغل المباشرة وغير المباشرة:

يتوقع أن يساهم المشروع في ايجاد فرص عمل واسعة، سواء أثناء مرحلة الإنشاء أو بعد دخوله حيز التشغيل، من خلال تشغيل اليد العاملة في مجالات البناء، والأشغال البحرية، والإدارة التقنية، والمراقبة، والنقل والخدمات المرتبطة بالميناء. كما ستُتيح الصناعات المصاحبة، كالصيد والتخزين والتوضيب والنقل، إمكانيات واسعة لتوظيف الموارد البشرية المحلية، مما يساهم في الحد من البطالة ورفع المستوى المعيشي لسكان الجهة.

تعزيز قدرات التصدير، خاصة في المنتجات البحرية والفلاحية:

ستمكن البنية التحتية المتطورة للميناء من تسهيل عمليات تصدير المنتجات البحرية التي تزخر بها المنطقة، لا سيما الأسماك عالية الجودة، نحو أسواق غرب إفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية. كما أن الربط بين الميناء وسلاسل التوزيع الفلاحية سيسمح بتسويق المنتجات الزراعية للجهة في ظروف مثالية من حيث التبريد والتخزين والمعالجة، مما يرفع من تنافسيتها في الأسواق الدولية.

تطوير الصناعات المرتبطة بالتبريد، والتوضيب، والخدمات اللوجستية:

سيتيح المشروع بيئة ملائمة لنشوء وتطور صناعات مكمّلة، من بينها وحدات التبريد والتجميد، ومصانع توضيب وتعليب المنتجات البحرية والفلاحية، فضلاً عن منصات لوجيستية متخصصة في مناولة الحاويات، وخدمات التخزين الذكي، والنقل المتعدد الوسائط. وسيساهم هذا في خلق منظومة اقتصادية متكاملة (Écosystème Logistique) تُحول الداخلة إلى قطب صناعي ولوجيستي محوري جنوب المملكة..

إدماج الأقاليم الجنوبية في سلاسل الإنتاج الإقليمية والعالمية:

إن ربط الميناء بشبكة الطرق الوطنية، ولاحقاً بشبكة السكك الحديدية، سيجعل من الداخلة نقطة اتصال لوجيستي ذات أهمية في الربط بين شمال المغرب ووسط وغرب إفريقيا. وسيمكّن هذا التكامل الترابي من إدماج الأقاليم الجنوبية في سلاسل التوريد والإنتاج القارية والعالمية، ما يضعها في قلب الحركية الاقتصادية للمنطقة، ويمنحها دورًا فاعلًا في التجارة العابرة للحدود.

كما سيُساهم الميناء في ربط المغرب بالدول الإفريقية غير الساحلية، مثل مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، عبر محور نقل بري–بحري، مما سيُعزز مكانته كمركز عبور (Hub   Logistique)   للقارة . ويتكامل المشروع مع مبادرات أخرى مثل الطريق السريع تزنيت–الداخلة، وخط السكك الحديدية المستقبلي، وميناء نواكشوط في موريتانيا.

ان مشروع ميناء الداخلة الأطلسي ينطوي على أبعاد استراتيجية متعددة ومترابطة، تتجاوز كونه منشأة بحرية، ليعكس رؤية تنموية شاملة تهدف إلى إعادة تموقع المغرب ضمن منظومة التجارة الإقليمية والدولية، وتعزيز انفتاحه على عمقه الإفريقي. كما يحمل المشروع أبعادًا اقتصادية وجيوسياسية وأمنية تجعله ركيزة محورية في السياسة المغربية تجاه الجنوب.

أما من الناحية السياسية، فإن المشروع يُجسد خيار التنمية كوسيلة لترسيخ السيادة الوطنية، حيث يشكل الاستثمار في مشاريع مهيكلة أحد الأعمدة الأساسية في الاستراتيجية المغربية لتثبيت سيادتها على الصحراء. ويسعى المغرب إلى تحويل أقاليمه الجنوبية من هامش ترابي إلى قطب اقتصادي وسياسي فاعل. وتندرج هذه الرؤية ضمن البرنامج التنموي الخاص بالأقاليم الجنوبية الذي تجاوزت ميزانيته 85 مليار درهم 8.5 مليار دولار منذ سنة 2015. وفي هذا السياق، يمثل ميناء الداخلة الأطلسي واجهة عملية للمغرب نحو الساحل الإفريقي، وأداة لتجسيد السيادة عبر التنمية، وليس فقط عبر الأدوات الدبلوماسية والقانونية.

وعلى المستوى الجيوستراتيجي، من المنتظر أن يعيد المشروع تشكيل موازين القوى الإقليمية، خاصة في ظل تزايد الاهتمام الدولي بمنطقة الساحل وغرب إفريقيا، ودخول فاعلين جدد مثل الصين، وروسيا، وتركيا، والولايات المتحدة. كما يتزامن المشروع مع تراجع النفوذ الفرنسي في المنطقة وبروز تحالفات جديدة مثل مجموعة دول الساحل (G5).

وفي هذا السياق يسعى المغرب من خلال هذا المشروع إلى تقديم نفسه كقوة استقرار وشريك موثوق، وممر بديل وآمن لصادرات وواردات الدول الإفريقية نحو المحيط الأطلسي، خصوصًا في ظل التحديات المرتبطة بمحدودية المنافذ البحرية لهذه الدول، وتهديدات القرصنة في خليج غينيا والبحر الأحمر.

في المجمل، يُجسد ميناء الداخلة الأطلسي رؤية تنموية ذات أبعاد اقتصادية، سياسية، وجيوستراتيجية، فهو ليس مجرد ميناء، بل منصة مهيكلة لإعادة ترتيب الأدوار الإقليمية، ولتعزيز السيادة الوطنية المغربية من خلال الفعل التنموي. كما يعكس المشروع رهانًا استراتيجيًا على مستقبل إفريقيا، وعلى دور المغرب كمفصل جغرافي واقتصادي بين الشمال والجنوب، والغرب والعمق الإفريقي.

حول الكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *