التحديات الجيوسياسية أمام حل الدولتين في الشرق الأوسط في ظل المتغيرات الراهنة

Two State solution

مقدمة

يعد الصراع العربي (الفلسطيني)-الإسرائيلي من أعقد الصراعات الجيوسياسية في العصر الحديث، الذي لطالما كان موضع جدل بين مختلف الأطراف المنخرطة أو المعنية به داخل معسكري الصراع. فعلى الجانب العربي، الفلسطيني بالخصوص، كان هناك معسكرين أحدهما يدفع باتجاه “تسوية” هذا الصراع بعيدا عن الأشكال العسكرية، وآخر لا يعتقد بفرصة تحقيق أي حل بعيدا عن ثقافة “المقاومة”، بما فيها المقاومة العسكرية المكفولة دوليا. في هذا التحليل لن نناقش مستقبل الصراع من وجهة نظر “معسكر المقاومة”، على اعتبار أن حدث طوفان الأقصى لا يزال مستمرا، وبالتالي فمن المبكر الحديث عن تأثيراته المباشرة على الصراع. لذا سنحصر النقاش داخل منظومة تفكير ما يمكن تسميته “معسكر التسوية”، لاسيما وأنه من يمتلك القرار -رسميا- في ظل وجود السلطة الفلسطينية. لقد ظل “حل الدولتين” يشكل الإطار النظري الأساسي المتفق عليه دولياً لإنهاء هذا الصراع منذ عقود. يهدف هذا المقال إلى تقديم تحليل معمق لفرص تحقيق هذا الحل في ظل التركيبة الراهنة لموازين القوى السياسية في الولايات المتحدة، إسرائيل، والسلطة الفلسطينية، فضلاً عن محيطها العربي. كما سيعرج المقال على بعض التداعيات غير المسبوقة لعملية “طوفان الأقصى” على هذه الفرص، ويستشرف البدائل الأكثر ترجيحاً للتحقق في حال تلاشي أفق حل الدولتين، مع تقييم للمبادرات الدبلوماسية الراهنة.

1. تقييم فرص حل الدولتين في سياق موازين القوى الراهنة

1.1. الواقع الإسرائيلي: تآكل الإرادة السياسية وتصاعد اليمين

إن تحليل المشهد السياسي الإسرائيلي يكشف عن عقبات جوهرية أمام حل الدولتين. تتمثل أبرز هذه العقبات في هيمنة تيار اليمين المتطرف على الحكم، حيث تُعد الحكومة الإسرائيلية الحالية هي الأكثر يمينية في تاريخ الدولة. هذه الحكومة، التي تضم شخصيات وأحزاباً ترفض بشكل صريح إقامة دولة فلسطينية وتدعو إلى ضم أجزاء من الضفة الغربية، لا تمتلك أي إرادة سياسية للمضي قدماً في حل الدولتين.

بالإضافة إلى ذلك، فإن وتيرة الاستيطان المتسارعة في الضفة الغربية تُقوض بشكل منهجي الأسس الجغرافية لأي دولة فلسطينية قابلة للحياة، وتُعيق تواصلها الإقليمي. هذا التوسع الاستيطاني يعكس غياب “الشريك الإسرائيلي” الفعلي المستعد لتقديم التنازلات الضرورية لإنهاء الاحتلال. علاوة على ذلك، أدت عملية “طوفان الأقصى” إلى تصعيد غير مسبوق في المزاج العام الإسرائيلي نحو التشدد الأمني، وزادت من حالة عدم الثقة بأي حلول تتضمن تنازلات تُعتبر أمنية، مما قلص بشكل كبير أي دعم محتمل لحل الدولتين داخل المجتمع الإسرائيلي.

1.2. الدور الأمريكي: الانقسام والتركيز على الأولويات الإقليمية

على الرغم من دعم الإدارة الأمريكية الحالية (إدارة بايدن) لحل الدولتين اسمياً، إلا أن الانقسام الحزبي العميق في الولايات المتحدة والتركيز على قضايا داخلية وخارجية أخرى (مثل الصراع في أوكرانيا أو التنافس مع الصين) يحد من قدرة أي إدارة أمريكية على ممارسة ضغوط حاسمة على إسرائيل. يضاف إلى ذلك النفوذ القوي للوبيات المؤيدة لإسرائيل في الكونغرس والإدارة الأمريكية، مما يجعل فرض أي سياسة أمريكية تتعارض بشكل مباشر مع المصالح الإسرائيلية المُعرفة ذاتياً أمراً بالغ الصعوبة. لذا، فإن الدور الأمريكي، على الرغم من أهميته، يظل مقيداً بعوامل داخلية وخارجية تقلل من فعاليته في دفع عملية السلام.

1.3. ضعف السلطة الفلسطينية والمحيط العربي:

تعاني السلطة الفلسطينية من ضعف داخلي مزمن وتآكل في الشرعية الشعبية، بالإضافة إلى الانقسامات الداخلية العميقة (خاصة بين فتح وحماس)، مما يحد من قدرتها على التفاوض بفعالية أو تنفيذ أي اتفاقات مستقبلية. وعلى الصعيد العربي، فإنه على الرغم من الدعم الرسمي المستمر لحل الدولتين، إلا أن العديد من الدول العربية ركزت على قضاياها الداخلية وتحدياتها الإقليمية قبل “طوفان الأقصى”، مما قلص من الضغط الموحد على إسرائيل والولايات المتحدة. وقد أدت تداعيات “طوفان الأقصى” إلى تعميق حالة الاستقطاب وأضعفت أي فرصة للعودة إلى مفاوضات جدية في الأفق المنظور، في ظل تدهور الأوضاع الإنسانية والسياسية.

2. الرؤية العربية الفلسطينية لحل الدولتين: تحديات تحقيقها

تُحدد الرؤية العربية الفلسطينية لحل الدولتين بوضوح المعالم التالية: دولة فلسطينية مستقلة على حدود 4 حزيران/يونيو 1967، مع تبادل محدود للأراضي، والقدس الشرقية عاصمة لفلسطين. عند تحليل فرص تحقيق هذه الصيغة تحديداً، يتضح أن العقبات تزداد بشكل كبير.

2.1. حدود 1967 والكتل الاستيطانية:

تُعتبر العودة إلى حدود 4 حزيران/يونيو 1967 خطاً أحمر لمعظم الطيف السياسي الإسرائيلي. تعتبر إسرائيل هذه الحدود “غير قابلة للدفاع عنها” أمنياً، وتُصر على الاحتفاظ بـالكتل الاستيطانية الكبرى التي أُقيمت في الضفة الغربية وتضم مئات الآلاف من المستوطنين. يُعد إخلاء هذه المستوطنات أمراً غير وارد سياسياً في إسرائيل، خاصة بعد 7 أكتوبر، حيث تزايد التشدد الأمني. بينما تقبل الرؤية الفلسطينية بتبادل “محدود” للأراضي، فإن الرؤية الإسرائيلية لأي تبادل تميل إلى ضم مساحات أوسع بكثير، بما يتعارض مع مبدأ التواصل الجغرافي للدولة الفلسطينية.

2.2. قضية القدس الشرقية:

تُعد القدس الشرقية نقطة الخلاف الأكثر حساسية. تعتبر إسرائيل القدس بأكملها “عاصمتها الأبدية والموحدة” وترفض أي تقسيم لها أو جعل القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية. هذا الموقف يحظى بإجماع واسع في إسرائيل، وتعززه سياسات الضم الفعلي وتغيير التركيبة الديموغرافية في القدس الشرقية. أي حديث عن التنازل عن القدس الشرقية أصبح أمراً غير مطروح إطلاقاً في الخطاب السياسي الإسرائيلي الحالي، مما يجعل تحقيق هذا المطلب الفلسطيني شبه مستحيل في الظروف الراهنة.

3. البديل الأقرب للتحقق: “حل الدولة الواحدة” ثنائية الواقع أو الاحتلال الدائم

في ظل التحديات الهائلة التي تواجه حل الدولتين، خاصة بالرؤية العربية الفلسطينية، يبرز بديل أقرب للتحقق وهو استمرار وتعميق السيطرة الإسرائيلية مع حكم ذاتي محدود ومجزأ للفلسطينيين، أو ما يمكن وصفه بـ “حل الدولة الواحدة ثنائية الواقع” أو “الاحتلال الدائم.

3.1. سمات هذا البديل:

  • الضفة الغربية: استمرار التوسع الاستيطاني، والسيطرة الإسرائيلية الكاملة على معظم الأراضي المصنفة (C) بموجب اتفاقيات أوسلو.
  • قطاع غزة: قد يتحول القطاع إلى منطقة محاصرة بشكل دائم، مع تدخلات عسكرية إسرائيلية متكررة، ووضع إنساني كارثي. قد تسعى إسرائيل للسيطرة الأمنية المباشرة أو غير المباشرة على المدى الطويل، وربما الدفع باتجاه إفراغ القطاع من سكانه جزئياً أو كلياً عبر الضغط والتهجير.
  • الفلسطينيون في إسرائيل: استمرار تهميشهم وتضييق الخناق عليهم كأقلية.

3.2. أسباب ترجيح هذا البديل:

  • الإرادة الإسرائيلية اليمينية: يتوافق هذا السيناريو مع رؤى اليمين الإسرائيلي الذي يفضل السيطرة الكاملة على الأراضي دون منح الفلسطينيين حقوق دولة كاملة.
  • ضعف المعارضة الدولية: على الرغم من الانتقادات، لا يوجد إجماع دولي أو إرادة سياسية حقيقية لفرض حل مختلف على إسرائيل أو لفرض عقوبات مؤثرة.
  • تداعيات طوفان الأقصى: زادت هذه الأحداث من الميل الإسرائيلي نحو السيطرة الأمنية المطلقة وتقويض أي طموح فلسطيني بالسيادة، مما دفع بهذا البديل ليكون الأقرب للواقع.

4. المبادرات الدبلوماسية: مؤتمر باريس-الرياض نموذجاً

في ظل هذا الواقع المعقد، تُطرح تساؤلات حول دوافع ونتائج المبادرات الدبلوماسية، مثل المؤتمر الدولي الذي تعد فرنسا والسعودية لعقده.

4.1. دوافع المبادرة:

  • الحفاظ على الإطار النظري: تُعد المبادرة محاولة لإبقاء “حل الدولتين” على الأجندة الدولية ومنع موته كلياً، وذلك لتجنب الانزلاق نحو حلول أكثر كارثية.
  • الطموح الدبلوماسي: تسعى فرنسا لتأكيد دورها الدبلوماسي المستقل والمتعدد الأطراف، بينما ترغب السعودية في تعزيز قيادتها الإقليمية والدولية في ظل تداعيات “طوفان الأقصى” وضرورة ربط أي تطبيع مستقبلي مع إسرائيل بتقدم ملموس للقضية الفلسطينية.
  • الاستقرار الإقليمي: تدرك كلتا الدولتين أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو مصدر رئيسي لعدم الاستقرار، وأن أي محاولة لتخفيف التوتر ضرورية.

4.2. النتائج المتوقعة:

من المرجح أن تكون النتائج متواضعة على صعيد تحقيق اختراق سياسي شامل، ولكنها قد تحمل بعض الأهمية الرمزية والعملية المحدودة:

  • إعادة تأكيد رمزية: سيُعاد التأكيد على “حل الدولتين” كخيار وحيد، لكن هذا لن يُترجم بالضرورة إلى تغيير في الحقائق على الأرض.
  • دفع باتجاه المساعدات وإعادة الإعمار: قد يُحقق المؤتمر تقدماً في حشد الدعم للمساعدات الإنسانية لغزة وترتيبات إعادة الإعمار.
  • بناء توافق حول “اليوم التالي“: قد تُناقش سيناريوهات لمرحلة ما بعد الحرب في غزة، لكن التوصل إلى توافق فعال يظل صعباً في ظل رفض إسرائيل للعديد من المقترحات.
  • تقوية السلطة الفلسطينية: قد يسعى المؤتمر لتعزيز شرعية ودور السلطة الفلسطينية كشريك مستقبلي.
  • غياب الفاعلية الكاملة: سيظل تأثير المؤتمر محدوداً إذا لم تشارك إسرائيل بفاعلية، وإذا لم تقدم الولايات المتحدة دعماً قوياً وملموساً لنتائجه.

يمكن وصف هذه المبادرة بأنها جهد دبلوماسي حقيقي من حيث النوايا والدوافع، ولكنه يواجه تحديات هائلة قد تجعل نتائجه السياسية المباشرة محدودة جداً، وبالتالي قد يُنظر إليه لاحقاً على أنه فشل في تحقيق اختراق شامل، ولكنه ليس مجرد “حملة علاقات عامة” خالية من أي مضمون.

خاتمة

يُظهر التحليل أن فرص تحقيق حل الدولتين، خاصة بالصيغة العربية الفلسطينية (دولة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية)، تكاد تكون معدومة في ظل موازين القوى السياسية الراهنة في إسرائيل، وتأثير عملية “طوفان الأقصى”، ودور الولايات المتحدة، وضعف السلطة الفلسطينية. الواقع الأكثر ترجيحاً هو استمرار “حل الدولة الواحدة” ثنائية الواقع أو الاحتلال الدائم، حيث تبقى السيطرة الإسرائيلية الشاملة قائمة مع حكم ذاتي فلسطيني محدود. بينما تسعى المبادرات الدبلوماسية مثل مؤتمر باريس-الرياض للحفاظ على الأفق السياسي مفتوحاً وتقديم المساعدة الإنسانية، فإن قدرتها على إحداث تغيير جذري في مسار الصراع تبدو محدودة للغاية في ظل غياب الإرادة السياسية الحقيقية لدى الأطراف الفاعلة الرئيسية. يبقى السؤال الجوهري: إلى متى يمكن للمجتمع الدولي الاستمرار في دعم إطار نظري دون القدرة على ترجمته إلى واقع ملموس على الأرض؟ هذا التساؤل يُشير إلى الحاجة الملحة لإعادة تقييم شاملة للاستراتيجيات الدبلوماسية المستقبلية.

حول المؤلف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *