سجلماسة: أسطورة تاريخية تروي فصول حضارة المغرب

Sijilmasa2

كثيرة هي المدن التي أثثت ذاكرة المغرب التاريخية على امتداد تاريخه العريق. بعضها لا يزال قائما وشاهدا على عظمة هذا التاريخ، بينما تكفلت آثار الزمن بمحو -أو كادت- كل وجود مادي لمدن أخرى، كانت في مرحلة ما ملء السمع والبصر. أحد هذه المدن، التي شكلت حلقة وصل بين المغرب وعمقه الأفريقي هي “سجلماسة”، الحاضرة التي ازدهرت على مدى قرون، قبل أن يختفي وجودها المادي، مخلفة بعض الأطلال من أسوار وبوابات. تقع هذه المدينة الأثرية في شرق المغرب، في ولاية تافيلالت، ويقام فوق أنقاض الموقع حاليا بلدة “الريصاني” المميزة بقصباتها وآثارها الغنية. تبعد سجلماسة عن الرشيدية (عاصمة الولاية) قرابة 90 كيلومترا جنوبا، ولا يفصلها عن الحدود الجزائرية سوى 50 كيلومترا. دعونا نلقي بعض الضوء على هذه المدينة التاريخية العريقة..

تاريخ بناء مدينة سجلماسة

تأسست مدينة سجلماسة في القرن الثامن الميلادي، وبالتحديد في عام 757 ميلادي، على يد الداعية الإسلامي أبو القاسم الملقب بالداعي، الذي كان له دور فعّال في نشر الإسلام في البلاد. وجاءت فكرة بناء هذه المدينة نتيجة لاحتياجات المنطقة التجارية والثقافية، حيث كانت سجلماسة تسعى لتكون نقطة التقاء بين مختلف القوافل التجارية القادمة من الشرق والغرب.

في تلك الفترة، كانت الظروف الاجتماعية والسياسية تعكس حالة من التحولات الكبرى في المغرب. فقد مرّت البلاد بفترات من الصراعات السياسية، مما أدى بالكثير من القبائل والمراكز التجارية إلى البحث عن مواقع استراتيجية تعزز من نفوذها الاقتصادي والسياسي. وقد كانت سجلماسة بمثابة قلب محوري لعمليات التجارة البرية، وبفضل موقعها الجغرافي، أصبح بالإمكان تبادل السلع والبضائع بين مناطق مختلفة، من بينها الذهب، والملابس، والسكر.

إضافةً إلى ذلك، عُرفت المدينة بمظاهرها الثقافية التي كانت تجذب العديد من الفقهاء والعلماء، وذلك بفضل انفتاحها على الثقافات المختلفة. وعلى مر السنين، أصبحت سجلماسة رمزًا للحداثة والإبداع في البناء الحضاري حيث تمتاز بمعمارها الفريد ونظامها الحضري الذي استندت إليه باقي المدن المغربية لاحقاً. وقد أسهمت هذه العوامل في تعزيز مكانتها كمركز مهم في التاريخ المغربي، مما جعل فعالياتها تتواصل وتنافس المدن الكبرى الأخرى التي ازدهرت في العصور اللاحقة.

المراحل التاريخية المضيئة والداكنة

تُعتبر سجلماسة واحدة من المحطات التاريخية البارزة في المغرب، حيث مرت بمراحل متعددة اتسمت بالازدهار والتراجع. تأسست في القرن الثامن الميلادي، وكانت مركزًا تجاريًا هامًا يربط بين المغرب والصحراء الكبرى، وبالتالي أثرت بشكل كبير على مسارات التجارة والنقل. خلال تلك الفترة، شهدت المدينة نهضة اقتصادية وثقافية، حيث توافدت القوافل التجارية محملة بالبضائع الثمينة، مما ساهم في بناء شبكة تجارية متينة جعلت من سجلماسة نقطة جذب للعلماء والتجار. كانت المدينة أيضًا موطنًا للعديد من المنشآت العامة والمرافق الثقافية، وهذا يعكس ازدهارها الشامل.

خلال العصر الوسيط، كانت سجلماسة مدينة تجارية مزدهرة، لكنها بدأت تفقد أهميتها بعد سقوط الدولة المرينية وتحوّل الطرق التجارية نحو المحيط الأطلسي. مع ظهور الدولة العلوية، اتخذت المدينة وضعًا جديدًا.

سجلماسة في بداية العهد العلوي

انطلقت الدولة العلوية من منطقة تافيلالت، حيث تقع سجلماسة، على يد المولى محمد بن الشريف الذي يعتبر مؤسسها الفعلي. وقد شهدت المدينة بعض الاستقرار في عهد المولى رشيد (1664-1672م)، الذي ولد فيها وتلقى تعليمه على يد والده وبعض فقهائها.

إعادة الإعمار والتدهور النهائي

تذكر بعض المصادر أن المدينة قد أعيد بناؤها في القرن الثامن عشر بأمر من السلطان المولى إسماعيل. ورغم هذه المحاولة، إلا أن المدينة تعرضت للخراب والتدمير على يد القبائل البدوية في عام 1818م، مما أدى إلى تحولها إلى أطلال.

الأسباب وراء تدهورها

تعددت الأسباب التي أدت إلى تدهور سجلماسة، ومن أهمها:

تحوّل الطرق التجارية: فقدت سجلماسة أهميتها كمركز تجاري رئيسي بعد تحوّل الطرق التجارية الكبرى من الصحراء إلى المحيط الأطلسي.

الاضطرابات السياسية: عانت المنطقة من عدم الاستقرار السياسي والصراعات بين القبائل، مما أثر سلبًا على أمن المدينة واقتصادها.

الظروف الطبيعية: ساهمت الظروف المناخية القاسية، مثل الجفاف والأوبئة، في تسريع وتيرة تدهور المدينة.

لم يتبق من سجلماسة اليوم سوى أطلال وخرائب شاهدة على عظمتها التاريخية، وقد تم تسجيلها كـ تراث وطني للتعريف بقيمتها الأثرية والمعمارية.

دور سجلماسة في نشر الإسلام

تعتبر مدينة سجلماسة واحدة من أبرز المحطات التاريخية في سياق نشر الإسلام في غرب إفريقيا. تأسست في القرن الثامن الميلادي، وكان لها دور محوري في تبادل المعرفة والثقافة الإسلامية، حيث مثلت نقطة اتصال بين الحضارات المختلفة. انطلقت من سجلماسة قوافل العلماء والتجار، مما ساهم في نقل التعاليم الإسلامية إلى المناطق المجاورة، ولا سيما مدن تمبوكتو وشنقيط.

من خلال هذه العلاقات، لم تكن سجلماسة مجرد نقطة تجارية فحسب، بل كانت محوراً لنشر العلوم والثقافة الإسلامية. شهدت المدينة حركة نشطة من العلماء الذين أسسوا المدارس والمكتبات، وقدموا دروسًا في الفقه والعلوم الشرعية، مما حفز أبناء القبائل ومختلف الشعوب على اعتناق الدين الإسلامي. وكان لهذه الحركة التعليمية أثر كبير على تشكيل الهوية الثقافية والدينية للمنطقة.

علاوة على ذلك، ساهمت سجلماسة في بناء علاقات تجارية ودينية قوية مع مناطق أخرى، حيث كانت تعتبر حلقة وصل تربط بين المغرب وبلدان غرب إفريقيا. هذه العلاقات أسهمت في تعزيز الفهم والتبادل الثقافي، مما ساعد على نشر الإسلام بشكل أوسع. تجسد ذلك في الرحلات التجارية التي قام بها التجار المسلمون، الذين كانوا يرافقهم في سفرهم إلى المناطق البعيدة علماء الدين الذين نشروا التعاليم والعلوم الإسلامية.

إن التاريخ الغني لمدينة سجلماسة يعكس تأثيرها الكبير في نشر الإسلام، حيث تعد مثالاً حياً على كيفية تأثير التجارة والعلم في تطوير المجتمعات ونشر القيم الإسلامية. لهذا، على الرغم من مرور الزمن، تظل سجلماسة رمزاً حيوياً في تاريخ الحضارة الإسلامية بأفريقيا.

الحاضر والمستقبل: سجلماسة اليوم

تُعتبر سجلماسة، المدينة التاريخية التي لطالما احتفت بتقافتها الغنية وموقعها الاستراتيجي، بمثابة نقطة انطلاق للعديد من الحضارات. في الوقت الحاضر، تواجه سجلماسة تحديات عدة، تشمل التدهور العمراني وفقدان الهوية الثقافية، الأمر الذي يتطلب التوجيه والجهود الجماعية لإحياء المدينة.

تسعى السلطات الحكومية المحلية ومنظمات المجتمع المدني إلى إعادة إحياء سجلماسة كوجهة سياحية ثقافية متميزة. تتضمن هذه الجهود ترويج التراث المعماري والتاريخي للمدينة عبر تنظيم مهرجانات ومعارض تبرز فصول تاريخها الغني، مما يسهم في جذب الزوار والمستثمرين. كما تهدف هذه المبادرات إلى تحفيز النشاط الاقتصادي المحلي من خلال تعزيز العمل اليدوي والحرف التقليدية.

إلى جانب ذلك، تُعتبر مشاريع التنمية المستدامة ذات أهمية بالغة، حيث يتم التركيز على إنقاذ المناطق الأثرية وتحسين البنية التحتية للمدينة. تشمل هذه المشاريع تجديد الشوارع، وإنشاء مراكز ثقافية، وتوفير مساحات خضراء، مما يجعل سجلماسة مكاناً جذاباً للعيش والزيارة على حد سواء. إن استخدام التقنيات الحديثة مثل السياحة الرقمية يمكن أن يُعزز من تواصل المدينة مع زوارها، مُقدمةً لهم تجربة فريدة تضمن تفاعلهم مع حضارتها الغنية.

في النهاية، تحمل سجلماسة إمكانيات هائلة للمستقبل، وتعمل على استعادة مكانتها كواحدة من أبرز الوجهات في المغرب. من خلال تركيز الجهود على السياحة الثقافية والتنمية المستدامة، يمكن أن تتبوأ سجلماسة موقعها الطبيعي في مشهد الحضارة المغربية المعاصرة.

حول الكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *