صراع الأجنحة في الجزائر وانعكاساته على الأزمة المفتعلة مع فرنسا

Tebboune and Macron

عندما تواجهك أزمةٌ متعددة الأوجه، فإن أول خطوةٍ عقلانية هي استبعاد الفرضيات المستحيلة أو غير ذات الصلة، تمهيدًا للتركيز على التفسيرات الأكثر ترجيحًا. هذه القاعدة المنطقية البسيطة، المستوحاة من منهج “شيرلوك هولمز”، تصبح ضروريةً لفك شيفرة الأزمة المتجددة بين الجزائر وفرنسا، والتي تُقدم للرأي العام على أنها نزاعٌ بين دولتين مستقلتين، بينما جوهرها يعكس صراعًا داخليًا بين أجنحة النظام الجزائري، لا أكثر ولا أقل.

الجزائر ليست دولةً بالمعنى الكلاسيكي: نظام المافيا العسكرية

لتحليل الأزمة الجزائرية-الفرنسية، يجب التخلي عن أدوات التحليل السياسي التقليدية، فالنظام الحاكم في الجزائر لا يُدار بقواعد الدبلوماسية أو السياسة الدولية، بل بقوانين العصابات و”المافيا السياسية”. فمنذ انقلاب 1992، تحولت الجزائر إلى نظامٍ هجين، تُسيطر عليه تحالفات عسكرية-مالية تتنازع النفوذ تحت عباءة “الجمهورية”، بينما تُدار البلاد كإقطاعيةٍ مغلقة.

وفي هذا السياق، فإن أي حديث عن “المصلحة الوطنية” أو “الكرامة الجزائرية” هو مجرد ستارٍ دعائي. فالنظام لم يتحرك يومًا إلا بدوافعَ ذاتية: إما لحماية مصالحه الداخلية، أو لاسترضاء أسياده الخارجيين. والأزمة الحالية مع فرنسا ليست سوى حلقة جديدة في مسلسلٍ طويل من الأزمات المفتعلة، التي تُستخدم كأداةٍ لتصدير الأزمات الداخلية أو تسوية الحسابات بين الأجنحة.

ثلاثة احتمالاتٍ تفسر الأزمة: أيها الأقرب إلى الحقيقة؟

بعد استبعاد السرديات الرسمية المليئة بالشعارات الجوفاء، تبرز ثلاثة تفسيراتٍ محتملة للأزمة الحالية:

صراع الأجنحة: حرب الوكالة داخل النظام

الأرجح أن الأزمة نتاج صراعٍ بين جناحين:

  • جناح “فرنسا: الممتد في مفاصل الدولة، من رئاسة الجمهورية (عبد المجيد تبون) إلى قطاعات الأعمال والبيروقراطية، والذي يُدار كحزبٍ خفيٍّ موالٍ لمصالح باريس.
  • جناح “المقاومة الوهمية: والذي جرت العادة أن يقوده جناح المخابرات، تحديدا تحت قيادة الجنرال جبار مهنا وناصر الجن، وهو يسعى إلى توظيف الخطاب المعادي لفرنسا لتحسين موقعه في المعادلة الداخلية، أو وهو الاحتمال القوي، من أجل إظهار قدرته على خدمة “ماما فرنسا” بشكل أفضل؛ أي أنه صراع على فرنسا وليس ضد فرنسا!!

هذا الصراع ليس جديدًا، فقد تكرر في أزماتٍ سابقة، مثل:

  • قضية الناشطة بوراوي: التي اتُهمت المخابرات الفرنسية بتهريبها، رغم أن الأدلة تشير إلى تورط أجهزة جزائرية.
  • أزمة حرائق القبائل: التي نُسبت زورًا إلى “مؤامرة فرنسية-مغربية-إسرائيلية”، بينما كانت بصمات النظام واضحة فيها.
  • محاكمة الصحفي الفرنسي: في قضية رياضيةٍ تافهة، كرسالةٍ موجهة إلى الإليزيه.

كل هذه الأزمات تزامنت مع تصاعد التوتر الداخلي أو الخارجي، وكُتب لها أن تنتهي بمجرد حصول تسويةٍ بين الأجنحة.

اللعبة الروسية: هل يدفع شنقريحة باتجاه المواجهة؟

يُشاع أن الجنرال شنقريحة يحمل ولاءً روسيًا، مما يفسر التصعيد الأخير ضد فرنسا، خاصةً في ظل التقارب الروسي-المغربي، والاستعدادات الروسية للإعلان عن موقفٍ جديد من الصحراء. لكن هذا التفسير يعاني من ثغرةٍ كبيرة: موسكو لم تعد بحاجةٍ إلى الجزائر!

فبعد نجاح “الفيلق الإفريقي” في ليبيا وتشاد، وتراجع النفوذ الجزائري في الساحل، باتت روسيا تتعامل مع الجزائر كطرفٍ ثانوي. بل إن التقارير تشير إلى أن الكرملين يُعيد حساباته، ويُفضل التعاون مع المغرب كشريكٍ أكثر استقرارًا في المنطقة.

رد فعلٍ هستيري على الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء

هذا الاحتمال هو الأضعف، لأن النظام الجزائري لا يملك الجرأة لمواجهة فرنسا بشكلٍ جدي. فلو كان الأمر متعلقًا بالصحراء، لكان الرد أكثر حدةً منذ البداية، وليس عبر أزمة تأشيراتٍ مفتعلة.

الخلاصة: فرنسا ستنتصر دائمًا لأنها “مركز حياة” النخبة الجزائرية

بغض النظر عن دوافع الأزمة، فإن حزب فرنسا داخل النظام الجزائري قويٌ جدًا، ولن يسمح باستمرار التوتر لفترةٍ طويلة. ففرنسا ليست مجرد دولةٍ أجنبية، بل هي “الوطن البديل للنخبة الجزائرية:

  • 80% من كبار المسؤولين الجزائريين يمتلكون عقاراتٍ أو جنسياتٍ أو حساباتٍ في فرنسا.
  • أكثر من 60% من الاستثمارات الأجنبية في الجزائر فرنسية، خاصة في قطاع المحروقات.
  • البنوك الفرنسية هي الملاذ الآمن لأموال النخبة الجزائرية.

لذا، من المتوقع أن تشهد الأسابيع المقبلة “تراجعًا مدبرًا للنظام، بعد أن يحصل على مكاسبَ داخلية، أو بعد ضغوطٍ خفية من الإليزيه. ففي النهاية، الجزائر ليست سوى “دولةٍ وظيفية، تُدار من الخارج، وتلعب أدوارًا مكتوبةً سلفًا في مسرح الصراعات الدولية.

والسؤال الأهم: كم مرةً أخرى سينخدع الشعب الجزائري بهذه المسرحية؟

حول المؤلف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *