عصر محمد السادس.. ثالثا: السياسة والدبلوماسية.. الاستقرار والمبادرة والتصرف كفاعل

King Mohammed 6 with bourita

كما ظهرت بصمة الملك محمد السادس واضحة جلية في الميدان الأمني، لم تكن هذه البصمة أقل بروزا في المجال السياسي الدبلوماسي، لاسيما وأن السياسة الخارجية هي اختصاص دستوري حصري لجلالة الملك، يوجه دفتها ويصدر قرارتها عبر الأجهزة ذات الصلة. وهنا، يمكن نظريا أن نميز بين السياسة الداخلية والخارجية للمغرب، لضرورات التوضيح ليس أكثر. فعلى صعيد السياسة الداخلية، بدا العاهل المغربي الملك محمد السادس شديد الحرص على احترام نصوص الدستور بدقة شديدة، وبالتالي تعامل مع نتائج الانتخابات التشريعية بحرص كبير. ورغم أن الدستور ينص على إمكانية اختيار الملك لرئيس الحكومة من الحزب الفائز، دون أن يقيد ذلك بكون الشخصية المختارة هي رئيس الحزب حصريا، إلا أنه آثر التعامل مع رؤساء الأحزاب الفائزة كعرف، مع ما يحمله ذلك من احتمال جلب “شخصيات شعبوية” إلى رئاسة الحكومة، كما حدث في حالة الأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران! ورغم أن الملك محمد السادس قد خالف -ظاهريا- هذا العرف، عندما كلف شخصية مستقلة (إدريس جطو) برئاسة الحكومة الثانية في عهده (2002-2007)، إلا أن الواقع يقول بأن الانتخابات لم تفرز فائزا حاسما بعد تنازع المعسكر الفائز (الكتلة الديمقراطية وحزبيها الاتحاد الاشتراكي والاستقلال) على أحقية من يرأس الحكومة. وهنا، وفي غياب بند دستوري ملزم (رئاسة شخصية من الحزب الفائز للحكومة لم تقر إلا في دستور 2011) قرر الملك محمد السادس تغليب المصلحة الوطنية وروح النصوص الدستورية وأعراف العمل السياسي المغربي، واختار شخصية من خارج الحزبين الفائزين.

هذا الحرص على استقرار الحياة السياسية داخليا، أعطى نتائجه عبر الاستثمارات الخارجية التي وجدت في المغرب “واحة” مستقرة في محيط متفجر إقليميا. فتونس “قيس سعيد” أبعد ما تكون عن الاستقرار السياسي بعد هدمه أسس الحياة الديمقراطية الراسخة في هذا البلد، واختياره لإعادة تعريف العمل السياسي الديمقراطي بطريقة “بهلوانية” نزقة، كلفت وتكلف تونس الكثير. أما ليبيا، ومنذ خلع الرئيس الراحل معمر القذافي، لا تزال بعيدة عن الاستقرار مع انقسام مؤسساتها وجيشها وجهازها التنفيذي وسلطتها التشريعية بين مركزي الشرق والغرب. وبالنسبة لموريتانيا التي تحظى باستقرار نسبي مقارنة بجوارها، فهي لا تزال محكومة بالرؤى الشخصية لرؤسائها، ما بين القرب أو البعد من المحاور الإقليمية الموجودة. أما الجزائر، المحكومة بأنظمة عسكرية منذ الاستقلال “المفترض” عن فرنسا، فقد نجحت سلطاتها الحاكمة في إجهاض حراكها الشعبي، وإقفال أي نافذة يمكن أن تجلب معها أي نسمة ديمقراطية! وبالتالي، فنظامها الفاقد للشرعية الشعبية، هو في حقيقته منتهي الصلاحية منذ عقود، وأعجز من أن يقدم لمواطنيه أي فائدة حقيقية، بعيدا طبعا عن أكاذيب نظامه الدعائي، وإحصائيات ووعود رئيسه الخيالية!!

بالانتقال إلى السياسة الخارجية، يمكن تسجيل نجاحات لا تقل عن المسجل داخليا. وسنركز فقط على تلك التي تحمل طابعا استراتيجيا، والتي تبرر الحديث عن كون عهد الملك محمد السادس هو في حقيقته “عصرا” مكتمل الأركان. وهنا، تظهر الصفتان الأساسيتان اللتان تحدثنا عنهما سابقا: الشجاعة والرؤية الاستشرافية. فإذا اكتفينا للتدليل على شجاعته بمثال واحد، يكفي أن نتعرض إلى كيفية انخراطه الشخصي في ما يسمى في الأدبيات السياسية العربية ب “العمل العربي المشترك”، رغم معرفة القاصي والداني أن ما يصدر عن القمم العربية لا يمكن وصفه بالعمل؛ ولا تحركه مصالح عربية؛ ولا يمت للشراكة بصلة!! وانسجاما مع حرص الملك الشاب، عند استلامه الحكم، على الاستمرار في تطوير تراث والده المغفور له الملك الحسن الثاني، والذي جعل المغرب البلد الذي استقبل أكبر عدد من القمم العربية، قام الملك محمد السادس بحضور جميع القمم العربية التي عقدت ما بين عام 2000 (القمة الاستثنائية في القاهرة) وعام 2005 (قمة الجزائر)، مرورا بقمة عمان 2001، بيروت 2002، شرم الشيخ 2003، وتونس 2004. لكن صدقه مع نفسه، وشجاعته الاستثنائية، لم تقتصر على مقاطعة جميع القمم العربية التي جرت بعد 2005، بل رفض احتضان بلاده للقمة  ال 27، وأوعز لوزارة الخارجية بإصدار بيان يشرح فيه أسباب هذه المقاطعة، بلغة لا تحتمل التأويل. وكان من أبرز ما جاء في البيان الصادر في 2007، أن القمم العربية لا تعرض فيها أي مبادرات أو قرارات مهمة، وبالتالي لا تعدو كونها “مجرد مناسبة للمصادقة على توصيات عادية”، بعد إلقاء الخطب التي “تعطي الانطباع الخاطئ بالوحدة والتضامن بين دول العالم العربي”! وعليه فإن المغرب “يتطلع إلى عقد قمة للصحوة العربية، ولتجديد العمل العربي المشترك والتضامني، باعتباره السبيل الوحيد لإعادة الأمل للشعوب العربية”. هذه اللغة التي شكلت قطيعة مع التراث السياسي الرسمي العربي، كانت محور ترحيب شعبي على امتداد الجغرافيا العربية من المحيط إلى الخليج.

اما أمثلة الرؤية الاستشرافية فيقف على رأسها الخطوة التي احتاجت جرأة وشجاعة عظيمين، ونقصد بها قرار العودة إلى الاتحاد الأفريقي عام 2017، بينما لا تزال “جمهورية تندوف” تحظى بمقعد داخل قاعة اجتماعاته. القطيعة مع المقعد الفارغ، نقلت العلاقة المغربية الأفريقية إلى مستويات غير مسبوقة، تكفل فيها الملك محمد السادس شخصيا بالنصيب الأوفر، من خلال زياراته لمختلف دول القارة. ويكفي أن نعرف أن عدد الزيارات الأفريقية للملك محمد السادس من عام 2000 إلى عام 2018 قد بلغ 48 زيارة، بينما كان العدد (بعد عودة المغرب للاتحاد الأفريقي) منذ 2018 حتى اليوم في حدود 30 زيارة، ما بين زيارات فريدة أو متكررة، حسب أهمية البلد للمغرب. وهكذا، وعلى امتداد سنوات حكمه، زار الملك محمد السادس معظم الدول الأفريقية، مما يخرج فلسفته لما يجب أن تقوم عليه العلاقات الأفريقية البينية (تعاون جنوب- جنوب في إطار رابح- رابح) من إطار الشعارات النظرية إلى إطار العمل الواقعي المعاش.

يضاف إلى ما سبق سلسلة من المبادرات المغربية لصالح القارة الأفريقية، بدأت بالمساهمة الفعالة في التصدي للإرهاب الذي تكتوي به العديد من دول القارة، مرورا بالتكفل بتحقيق الأمن الغذائي (الأسمدة) والدوائي (اللقاحات) وانتهاء بمبادرة ربط دول الساحل الحبيسة (تشاد والنيجر وبوركينافاسو ومالي) بالمحيط الأطلسي؛ وربط 13 دولة بأنبوب الغاز النيجيري المغربي، وتوفير الطاقة لهذه الدول؛ ومبادرة تأسيس إطار استراتيجي للدول الأفريقية ال 23 المطلة على المحيط الأطلسي (حلف جنوب الأطلسي) على غرار نظيرها الشمالي، في خطوة ينتظر أن تشمل لاحقا دول أمريكا اللاتينية التي تشغل الضفة الشرقية من جنوب الأطلسي، بما يمكن له أن يصنع فاعلا جيو استراتيجيا عالميا عملاقا.

ولا تفوتنا الإشارة هنا، إلى أن أحد أهم نجاحات الدبلوماسية المغربية في “عصر محمد السادس” هي القدرة على نسج علاقات استراتيجية مع القوى العظمى الدولية المتنافرة، كالولايات المتحدة والصين والهند وروسيا والاتحاد الأوروبي، ناهيك عن الدول الأقل حضورا وحجما كالبرازيل واليابان وتركيا. هذه العلاقة التي يكاد يندر نظيرها في السياسة الدولية، جعلت المغرب ندا مستقلا لجميع هذه الدول، وإن اختلفت أحجام ومقدار القوة التي يمتلكها كل منها، إلا أنها تشترك في احترام قرار المغرب السيادي بعدم الانخراط في محاور متنافرة، دون أن يعني ذلك أن خياراته الدولية غير واضحة!

ختاما، فإن اقتراب المغرب من الحسم النهائي لملف النزاع المفتعل حول مغربية أقاليمه الجنوبية، سيكون بلا شك “الجائزة الكبرى” التي ستقترن دوما بعصر محمد السادس، والذي وظف من أجل كسبه جميع مصادر القوة المغربية، إقليميا وقاريا ودوليا، بما فيها قوته الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والرمزية (الناعمة)، وهو ما سيحرره من القيود التي كانت هذه القضية تضعها على حركته الدولية خارج محيطه المباشر!

حول المؤلف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *