على هامش مقالات “لوموند”.. “من يخاف الصحافة الغربية؟!”

على هامش مقالات “لوموند”.. “من يخاف الصحافة الغربية؟!”

عندما سؤل إدوارد ألبي، أحد عظماء المسرح الأمريكي عن سبب اختياره عنوانا لمسرحيته الأشهر “من يخاف فيرجينيا وولف؟” أجاب ببساطة: “حسنا، يمكننا تغيير العنوان إلى: من يخاف العيش دون وهم!”. هذا العنوان “المبدع” يجسد بطريقة رائعة أهم ما أراد “ألبي” قوله في المسرحية، التي كتبت عام 1962، وحولتها هوليوود إلى عمل خالد بنفس العنوان من بطولة الزوجين “إليزابيث تيلور” و “ريتشارد بيرتون” عام 1966.

نسوق هذه المقدمة في سياق تعليق مقتضب على اللغط المثار حول سلسلة من المقالات (6 حلقات) في صحيفة “لوموند” الفرنسية الشهيرة، والتي تتطرق فيها إلى ما تصفه “لغز محمد السادس”، سعيا لإضفاء أجواء من الغموض والإثارة المعتمدة في مثل هذه المقالات، وما تسميه “أجواء نهاية عهد محمد السادس”! وبعيدا عن محتوى هذه المقالات “الانطباعية” التي بنى عليها الصحفيين “فريدريك بوبان” و “كريستوف عياد” سرديتهما “المتهالكة”، وما أظهراه من جهل شديد بالمملكة المغربية ونظامها الملكي، والتقاليد الراسخة التي تحكم إدارة الأمور في أقدم ملكية مستقرة على وجه الكرة الأرضية، وثاني أقدم أسرة مالكة في العالم، يمكن تسجيل جملة من الملاحظات الأساسية، على الصحافة الغربية عموما، والفرنسية على وجه الخصوص، ليس في تعاملها مع ما تعتبره “مستعمراتها السابقة” فحسب، بل مع كل ما هو خارج القارة العجوز من عوالم وحضارات.

أول ملاحظاتنا تتعلق ببيان حقيقة رسوخ النظام الملكي في المغرب، بما يستحيل معه أن تتمكن الصحافة الغربية بأكملها، وليس فقط صحيفة لوموند، من زعزعته أو التشويش عليه. وهنا نتساءل: كيف يعقل أن يتجاهل “صحفيان استقصائيان” حقيقة أن عمر الأسرة العلوية الحاكمة في المغرب يتجاوز عمر الجمهوريات الفرنسية الخمسة بقرابة 126 سنة!! حيث رأت أول جمهورية فرنسية النور عام 1792، بينما تأسست الدولة العلوية التي تحكم المغرب دون انقطاع في عام 1666!! بل يتوجب علينا التذكير بأن عمر أول مملكة فرنسية (مملكة آل كابيه) متأخر عن أول مملكة مستقرة في المغرب (الأدارسة) بحوالي 200 سنة! فهل يمكن لنظام بمثل هذا الرسوخ أن يكون لديه أي أوهام حول قدرة مقال أو أكثر في “لوموند” أو غيرها، على التسبب بأي تشويش على الأوضاع المستقرة فيه؟!

ثاني الحقائق، التي تهدف إلى التخلص من أهم الأوهام المحيطة بالصحافة الغربية عموما، والفرنسية على وجه الخصوص، تقول بأن “الكليشيهات” التي أحاطت بها نفسها عبر عقود، والقائلة بمهنيتها، وحيادها، واستقلالها، وسلطتها الأخلاقية، قد تساقطت الواحد تلو الآخر، على مدى العقود الماضية، عبر محطات “كاشفة”، قبل أن تأتي حرب غزة الأخيرة وتتكفل بتعريتها من آخر أوراق التوت التي تستر عورتها. صحيح أن في هذا الحكم تعميما قد يبدو مخلا، لكن وجود استثناءات بين الصحف والصحفيين في هذا البلد الغربي أو ذاك، لا تعدو كونها استثناءات تؤكد القاعدة! وبأخذ مقالات لوموند الأخيرة (أو ما نشر منها حتى الآن) كمثال، يمكن القول أن معظم ما جاء في حلقتيها غير مبني على وثائق أو حقائق مؤكدة كما تفترض الصحافة الاستقصائية ذلك، بل هي انطباعات “سطحية” من صياغة مؤلفيها، مما يجردها من طابع المهنية. أما الحياد والاستقلال فهو وهم انتهى منذ زمن بعيد، حيث أنه لطالما استخدم الإعلام الغربي في “إرهاب” و “ابتزاز” الأنظمة الضعيفة في العالم الثالث، بسبب افتقارها للمشروعية الشعبية، والطبيعة الاستبدادية لرؤوسها الجمهورية، التي تعمر في منطقتنا أكثر من الملكيات. أمر لا ينطبق على الحالة المغربية التي تشهد رسوخا ومشروعية شعبية لم تفلح جميع مشاريع التشويش، بل والحروب الاستعمارية المباشرة، وغير المباشرة التي خاضتها فرنسا عبر وكلائها في المنطقة، من فصم عرى هذه العلاقة الراسخة بين عرش المملكة المغربية وشعبها. أما “خرافة” تحلي هذه الصحف بأخلاقيات المهنة او غيرها من الأخلاقيات، بسبب انتساب بعض أقلامها إلى بقايا اليسار الشعبوي، فإن دفاعها المستميت عن الجرائم الصهيونية في غزة، وتبرير ما لا يمكن تبريره، خلال معظم ما مر من أحداث هذه الحرب على الأقل، يجعلنا في منأى عن الالتفات إلى مثل هذه الادعاءات.

ثالث الحقائق الكاشفة للأوهام، تتعلق بمناعة النظام الملكي في المغرب تجاه أي محاولة ابتزاز، بطريقة تجعله مختلفا عن جميع الأنظمة الموجودة في المنطقة، والتي اعتادت الصحافة الفرنسية تحديدا والغربية عموما على إرهابها بمقال في لوموند، أو النيويورك تايمز، أو الواشنطن بوست، أو الفاينانشال تايمز وغيرها من الصحف الغربية المشهورة. والتاريخ القريب يشهد للملك محمد السادس تحديدا، والذي جعلته لوموند مادة لمقالاتها، بأنه أشجع من أن يخضع للابتزاز، بالحديث عن صحته او أمور خلافته، وما قصة الصحفيين الفرنسيين إريك لوران وكاترين غراسييه قبل عشرة أعوام ببعيدة عن الأذهان، وكان يجب أن تلهم “بوبان” و “عياد” بالاعتبار بما حدث لزميليهما. كما أن ابتزاز الأجهزة الأمنية المغربية، بافتعال أزمات “غبية” من قبيل “بيغاسوس” و “قطر غيت” وغيرها، كان أكثر فشلا، ببساطة لأنه تجاهل حقيقة أنه “يلعب” مع أحد أقوى الأجهزة الأمنية في العالم، وليس في أفريقيا، إلى الحد الذي جعل السلطات الفرنسية تستعين بخدماته في تأمين أولمبياد باريس نفسه!

رابع ملاحظاتنا تأسف لمحاولة بعض الصحف العريقة النزول إلى حضيض منافسة وسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها من المواقع الإلكترونية من أجل الوصول إلى أكبر عدد من المشاهدات والقراءات. فرغم كل الملاحظات المسجلة على كثير من الصحف الغربية، فلا يمكن إنكار أنها تجر وراءها إرثا عريضا من المهنية، الذي تكفلت “الشعبوية” ومحاولات نفي تهمة “معاداة السامية” في تآكل معظمه. وهنا نؤكد، أن التعويل على تسامح المؤسسات المغربية ليس مضمونا دائما، وأن هذه المؤسسات وإن كانت تملك يدا تربت على كتف المخطئ في حقها “ترفعا”، فإنها تملك كذلك اليد التي يمكنها توجيه الصفعات، بل واللكمات أحيانا، عندما يتجاوز صحفي أو مؤسسة إعلامية حدوده، عبر ما يمكن أن يعتبره المغاربة تطاولا على أحد “أقدس” رموزهم، والمذكور في نشيدهم الوطني وفي شعار مملكتهم الرسمي: الملك!

ختاما، وعودا على بدء، لا يجب أن يخطئ متابع لقضية مقالات لوموند، باعتبار الغضبة المغربية على هذه المقالات تعبيرا عن خوف أو قابلية للابتزاز، حيث أن لسان حال المغاربة هو: “من يخاف “فريدريك بوبان” و “كريستوف عياد”؟! لأن هذه المؤسسة المغربية من الرسوخ؛ وهذا الشعب المغربي من الولاء، بما يكفل أن تتكسر عليه جميع الاستهدافات الخارجية، أيا كان الشكل الذي تتخذه، وأيا كان الواقفون وراءها. فالمغاربة وملكهم، هم آخر “من يخاف العيش من غير وهم!” سلطة الصحافة الفرنسية و”صغار” كتابها!

حول الكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *